بعد انتخابات الأحجام الحقيقية.. جاء دور النيات الحقيقية

TT

إذا الشعبُ يوما أرادَ الحياةَ

فلا بد أن يستجيبَ القدرْ

(أبو القاسم الشابي)

مبروك للبنانيين خيارهم يوم 7 حزيران (يونيو). ومباركة لهم شجاعتهم وصلابة إرادتهم في جعل ورقة الاقتراع أقوى من سطوة السلاح.

تجربة 7 حزيران، شبه الفريدة في العالم العربي، استطاعت أن «تخلق» انتخابات من حالة كان يستحيل معها ـ ولو نظريا ـ الانتخاب بحُرّية. وعلى الرغم من سلاح الأمر الواقع، بل حتما بسببه، جاءت النتيجة كما شاهدنا. فأسقطت مزاعم وتهما عديدة.. وأكّدت ثوابت وقناعات عديدة أخرى.

سقطت ـ على سبيل المثال ـ تهمة «الأكثرية الوهمية» التي سوّغت لقوى الأمر الواقع احتلال الوسط التجاري لبيروت وشل الحياة الاقتصادية في البلاد. وسقطت أيضا الظاهرة «البرتقالية» العونية التي بلغ بها الأمر خلال الحملة الانتخابية التهجم على المقامات الدينية والدستورية، واعتبار أي ترشيح في أي دائرة مسيحية تطاولا على الحق الطبيعي ـ وشبه «الإلهي» ـ للنائب ميشال عون في احتكار تمثيل المسيحيين.

وفي المقابل أكدت أن نسبة لا بأس بها من اللبنانيين، وبالذات المسيحيون، وعت خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية إلى الاختلاف الواضح بين خيارين لا ثالث لهما: خيار الدولة والاستقلال والمؤسسات الدستورية التي تحترم حقوق المواطنين وتؤمن بالضمانات للطوائف، وخيار «الجبهة المفتوحة» (الوحيدة!) والارتهان للمشاريع الإقليمية وتحالف «النكاية» التكتيكي بين «القداسات» الشخصانية المتعالية على الوطن والمواطنين والمصادرة للطوائف.

ماذا الآن؟ وماذا بعد؟

الكتلة العونية التي حوّلها صاحبها من «الإصلاح والتغيير».. إلى «الاجتياح والتبرير»، «نُفخت» و«وُرّمت» بصورة مفتعلة لكي يسهل لنافخيها التخفّي وراءها، وقد استعرضت بالأمس نوابها وحلفاءها الجدد بكثير من المكابرة في وجه حقيقتين:

الأولى، أن مَن كان يدّعي لنفسه الحق الحصري في تمثيل المسيحيين بعدما كسب 73% من أصواتهم عام 2005 في حملة تجييش طائفي تستنهض ثأرهم من «التحالف الرباعي» المسلم، اكتفى هذه المرة بـ42% أو 45% فقط من أصواتهم. وكان مدينا للصوت الشيعي المستدعى بالتكليف الشرعي في عدد من الدوائر، بالإضافة إلى أصوات حزب الطاشناق الأرمني في دائرة المتن الشمالي.

والثانية، المبنية على الأولى، أن معظم نواب الكتلة العونية الحالية أقرب إلى «ودائع» بإمكان أصحابها الحقيقيين سحبها ساعة يشاؤون.

مع هذا، من الواجب القول لقوى «14 آذار»، السعيدة طبعا بتراجع ظاهرة عون، أن عليها أن تكون أكثر حكمة وتبصرا في الأمور.

فالانتصار الحقيقي ليس الحصول على 55% أو 58% من أصوات المسيحيين في معركة خيارات كانت أساسا خياراتهم هم. بل كان ضروريا أن تتجاوز النسبة 80% في موسم «التصويت العمودي» الطائفي الذي شهدناه. ولكن يبدو أن الناخب المسيحي، لحساسيات محلية معينة أو لثقافة سياسية ما، لم يدرك بعدُ الصورة كاملة لمخاطر ما يدفعه إليه عون. وبالتالي، فإن إصرار 42 أو 45% من المسيحيين على الانتحار السياسي مسألة مقلقة جدا. وهذا الواقع يرتّب على قوى «14 آذار» ـ وبالأخص على مسيحيّيها ـ إجراء تحليل أمين ومعمَّق للأخطاء التي أتاحت لحالة مثل عون النشوء أصلا. وحبذا لو ينتهي بصياغة جديدة لخيارات إنقاذية تبدأ من تحصين الوضع المسيحي وتنطلق منه إلى تحصين الوطن بأسره.

في الجهة المقابلة، إذا كانت رسالة الانتخابات الأخيرة لم تصل ـ والأرجح أنها لن تصل أبدا ـ إلى عون ومُريديه، فهي قد وصلت بالفعل إلى قوة المعارضة الحقيقية في لبنان، التي هي «حزب الله» أولا.. وحليفه «حركة أمل» ثانيا. وهذا، على الأقل، ما تنمّ عنه التعليقات والمواقف المبكرة للقيادات الأبرز في «الحزب» و«الحركة».

هذه الكتلة الشيعية هي القوة الحقيقية وهي صاحبة المشروع السياسي الذي كان في مواجهة مباشرة مع مشروع الدولة المدنية الذي كانت تعرضه «قوى 14 آذار» على اللبنانيين.. ولو بشكل سيئ جدا في بعض الأحيان. وثمة مَن يرى أن رسائل الاعتدال المبكرة التي يبعث بها البعض إنما تهدف الآن إلى ضمان انتخاب الرئيس نبيه برّي رئيسا لمجلس النواب قبل الدخول في مرحلة التجاذب والابتزاز التي ستحكم تشكيل الحكومة العتيدة وإعداد بيانها الوزاري. ومفهوم أن النقطة الأبرز والعقدة الأخطر فيه ستكون وضعية «سلاح المقاومة».. واستطرادا قرار «الحرب والسلم». 

هنا يصبح من الواجب التساؤل حول ما إذا كان هذا «الاعتدال» الجديد يشكل إعادة نظر حقيقية في المشروع السياسي المحلي والإقليمي للشيعية السياسية اللبنانية بعد انجلاء غبار الانتخابات، ونجاح الأكثرية «الحقيقية» في تأكيد كونها أكثرية، أم أنه مجرد تغيّر في التكتيك.. جزء منه متّصل بما سيحدث في إيران ولإيران بعد انتخاباتها.

فكلام السيد حسن نصر الله، رغم هدوئه واعتداله، أثار نقطة جدلية خطيرة جدا، عندما ميّز بين «الأكثرية البرلمانية» و«الأكثرية الشعبية». وعبارة «الأكثرية الشعبية» هنا تأتي استمرارا للتشكيك في تفويض الأكثرية بعدما أسقط الناخبون ادعاء «الأكثرية الوهمية».

والمفارقة، أن السيد نصر الله، الذي يهاجم الولايات المتحدة في كل مناسبة، يستعير هاتين العبارتين من النظام الانتخابي الأميركي. وهو نظام فيدرالي (اتحادي) فيه أكثريتان: «انتخابية» و«شعبية». مع العلم أنه في انتخابات الرئاسة الأميركية يعود القرار الفصل لأكثرية الأصوات «الانتخابية» لا «الشعبية» حماية لوحدة البلاد وحفاظا على كيانها. كما تتساوى في أصوات مجلس شيوخها ولاياتها الخمسون بصرف النظر عن عدد سكانها.

فهل يريد السيد نصر الله سحب اعترافه، إذن، بمبدأ التساوي بالمقاعد بين المسلمين والمسيحيين الذي يقرّه «اتفاق الطائف»؟ وهل يذهب في يوم من الأيام أبعد من ذلك فيعتمد مصطلحا أميركيا آخر له علاقة بالأكثريات والأقليات هو «الأكثرية الأخلاقية».. الذي ابتكره الأصوليون الإنجيليون تحت قيادة القس الراحل جيري فولويل؟

إن معظم النقاط المثارة اليوم على ساحة الجدل السياسي في لبنان، يمكن معالجتها بالعودة إلى روح «اتفاق الطائف» ونصوصه، بدلا من تجاهله والتذاكي بالالتفاف عليه.

فإنشاء مجلس للشيوخ تتساوى فيه الطوائف ويُترك له البت في القضايا المصيرية، بالتوازي مع إقرار اللا مركزية الإدارية، ينزع معظم الألغام المزروعة على طريق النظام الانتخابي المنشود والمتعثر الخطى تكرارا. كما أنه يتيح المجال أمام إلغاء الطائفية في مجلس النواب، وينفي الحاجة إلى وجود «الثلث الضامن» أو «المعطل».

المسألة بسيطة إذا خلصت النيات، لكنها ليست كذلك إذا ظلت رهينة للمشاريع الإقليمية العابرة للأوطان والمدمّرة للشعوب!