قنوات سوداء كالحبر

TT

تستعد إيطاليا منذ اليوم للعام الكبير: 1859، مرور 150 عاماً على الوحدة! من واجبي أن أشارك بهذا المقال. فالرحلة الأولى التي حملتني خارج بيروت، العام 1961، بدأت بالهبوط في مدينة باري، حيث كانت طائرة الفايكونت تتزود الوقود لإكمال الرحلة إلى قلب أوروبا. لم تكن الارباص 380 قد دخلت مرحلة الحلم.

منذ ذلك الوقت وأنا أسافر إلى ما يمكن أن يكون أجمل بلد في العالم. أو على الأقل في حوض المتوسط. ومنذ ذلك الوقت، وأنا عاجز عن إحصاء التناقضات الإيطالية، الوريث الشرعي الوحيد لبقايا الإمبراطورية الرومانية. فهي بلد الفن العالمي وهي بلد المافيا العالمية. وهي بلد ميكيافيللي وبلد مايكل أنجلو. وهي بلد التيرول الهادئ وبلد بركان فيزوف الذي لا يكن ولا يستكن. وهي بلد كان يغير حكومة كل عام في ظل الرجال التاريخيين، وهي الآن مستكينة منذ أكثر من عقد في ظل مطرب سابق وسياسي لا علاقة له بالتاريخ. هي بلد الأوبرا وبلد أشهر مغنّي العالم وبلد الريادة في السينما وبلد الملاحم الشعرية وبلد المسرح. هي بلد موسوليني وبلد الأم تيريزا. وخلال سنوات طويلة كانت العاصمة روما مقر أكبر الأحزاب الشيوعية خارج روسيا وقبالته الفاتيكان. ألهبت إيطاليا مخيلة شكسبير فكتب عنها أجمل مسرحياته. وألهبت مشاعر بايرون، فجاء يعيش فيها. وألهبت شعور الرحالة ريتشارد بورتون فجاء إلى قنوات البندقية يقضي على ضفافها سنواته الأخيرة. وفي ريف روما كتب غوته بعض أجمل ما كتب.

كبار كتاب فرنسا ذهبوا يبحثون عن السعادة في البندقية، بحيث كتب بول موران أن «قنوات البندقية سوداء مثل الحبر. حبر شاتوبريان وحبر مارسيل بروست وموريس بارس. جميعهم غطوا ريشاتهم في قنوات هذه المدينة». فعلوا ذلك وكأنهم يؤدون مسابقة مدرسية في الإنشاء.

بلد التناقضات، سافرت إلى ايطاليا في السبعينات لأكتب عن فقر الجنوب. مررت في مضيق مسينا الذي يشبه خاصرة صخرية. عبرت صقلية في القطار مع العجائز اللواتي يرتدين ثياب الحداد: جرائم الثأر وجرائم المافيا وجرائم السرقة. ثم تصل إلى روما فتنزل في أجمل محطة قطارات في العالم. لقد بناها موسوليني لكي تكون أهم من آثار القياصرة والأباطرة. ثم تضيع في زحمة إحدى أجمل مدن العالم، بجاداتها وساحاتها وفاتناتها المنحوتات من العصر الإمبراطوري. ثم تدخل إلى أصغر المطاعم الواقعة قرب «الفيافينتو» واسمه «العالم الصغير». وهو أصغر من أي عالم. وكنت تجلس، بخمسة دولارات إلى جانب أشهر وجوه هوليوود. وتغرق في المعجنات. ويغني النادل الأقرع تماما: فيفا إيطاليا. ابن خالة بافاروتي. تقريبا.