عن بري والحريري و«قوارير» السنّة

TT

البيئة تلعب دورا في تشكيل السلوك الاجتماعي. لبنان مثال واضح. الجبال العالية تحجز الرطوبة البحرية الكثيفة، فوق المدن المكتظة بالسكان المرشوشة على الساحل الضيق. ولأن السيارة هي رمز الحرية في لبنان، فأعصاب اللبنانيين المُعَلَّبين في علب السردين المتحركة معرضة للانفجار، كلما دقّت سيارة بسيارة في الازدحام المعطِّل، كالثلث الحكومي المعطِّل، الأمر الذي يفجر بدوره، حوارا يبدي فيه كل راكب رأيه في عائلة الراكب الآخر. هذا إذا لم يؤدِّ الاحتكاك إلى أزمة «إقليمية» بين «14 آذار» و«8 آذار».

الشكر لوليد جنبلاط الذي وضع لفائف الثلج على الرؤوس لتبريد الأعصاب الانتخابية الفائرة. خوفي شديد من أن تكون المهادنة مجرد تبويس للشوارب واللحى، فلا تتحول إلى هدنة طويلة، كتلك التي يقترحها الشيخ خالد بن مشعل بين إمارة حماس وإسرائيل.

لكن الشكر أولا للرئيس ميشال سليمان. تهنئة له على إدارة العملية الانتخابية بكفاءة أمنية. وبنزاهة رئاسية. صحيح أن الرئيس لم يكن في وسعه منع المال السياسي من تشويق الناخب اللبناني، إلا أنه لا شك، سوف يلح على الساسة، لكي يسمحوا له بالتحول من إدارة الأزمة، إلى إدارة العملية الأصعب: الإصلاح الإداري بتخفيف وطأة الطائفية على دولة الطوائف. ثم المضي قُدُما في مشروع تنمية تخدم اللبنانيين جميعا. الرئيس سليمان على حق في حلمه اللا طائفي، بعد انتخابات لم يعرف لبنان مثلها في حدَّة الاصطفاف الطائفي، وحشد الغرائز المذهبية، بحيث بدت كل طائفة منغلقة على نفسها ومصالحها. الغريب والطريف أن الطائفة المارونية تسجل تعددية سياسية واسعة، فيما جري حشد كل من الشيعة والسنة في بوتقة طائفية، سهلٌ احتكارُها. صعبٌ اختراقها.

تعددية المارونية السياسية ظاهرة ديمقراطية، لها سلبيات وإيجابيات. فهي تمنح الموارنة حرية واسعة في الاختيار، بين عون وجعجع وفرنجية والجميِّل، من دون أن تمتد هذه الحرية إلى اختراق الطوائف الأخرى. بل كان اختراق الطوائف للموارنة واضحا. فالعماد عون، مثلا، استعاد بأصوات الشيعة ما كان قد خسره من أصوات الموارنة.

كان نداء الاستغاثة العروبي الذي أطلقه بطريرك الموارنة صفير، بمثابة تذكير لطائفته بأن الرهان على العرب، هو الذي يجب أن يكون الثابت والدائم، بعدما أخفق الرهان المتحول والمتحرك، على فرنسا وإسرائيل وأميركا، في خدمة مصلحة الموارنة، أو لبنان «السيد المستقل».

رهان عون على إيران مخالف للطبيعة، تماما كرهان سورية (السنّية) على الدولة الشيعية الفارسية، رهان لم يخطر على بال السوريين، ولم يكن ليقوم، لولا طبيعة النظام الحاكم. أخطاء نظام الأسد الابن والأب في لبنان، أدت إلى تغريب السنّة اللبنانية عن عمقها وملاذها السوري، والتحول إلى السعودية، الدولة العربية الأقوى، والمجردة من أية طموحات جغرافية وسياسية في لبنان.

الرهان اللبناني على عروبة السعودية يقطع الطريق على الرهان المزعوم الشائع في الإعلام الغربي، على أميركا وأوروبا. ليس صحيحا الادعاء بأن فوز تيار «14 آذار» الانتخابي هو نصر لأميركا بوش وأوباما. وَهْمٌ كبير ظنُّ أميركا أنها تستطيع تجيير هذا النصر لتحييد حزب الله، أو للضغط على لبنان لمفاوضة ومصالحة إسرائيل، وحتى تسليح أميركا للجيش اللبناني لن يضعه في مواجهة دموية مع «حزب الله»، قد تؤدي إلى انفراطه، كما حدث في الحرب الأهلية. إذا كانت أميركا نزيهة، فعليها أن تمد جيش لبنان، بمنظومة دفاع جوي تضع حدا لعربدة الطيران الإسرائيلي في سمائه، على مرأى ومسمع القوات الدولية المرابطة في بَرِّه.

التحدي المرحلي الأكبر للإمارات اللبنانية المتهادنة هو في اختيار قيادة السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (الحكومة). لكن «مرشح التزكية» نبيه بري الذي سارع إلى تهنئة الأكثرية، يجب أن يقدم ضمانات في مقابل تصويتها له. فقد كان إغلاقه البرلمان خلال أزمة الحكم، ابتذالا للحياة الديمقراطية، وتهميشا للسلطة التشريعية والشعبية التي يريد أن يتربع فوق قبتها. المحامي نبيه بري هو أول من يجب أن يسعى إلى استعادة الحوار السياسي، من غوغائية الشارع، إلى صميم المؤسسة النيابية الديمقراطية.

الحديث عن «دولة الرئيس» نبيه بري، لا يُلغي الحديث عن «دولة الرئيس» سعد الحريري. لقد حقق هذا الشاب نجاحا ميدانيا كبيرا في إدارة المعركة الانتخابية، في الزواريب والمتاهات اللبنانية، ليس لصالح السنة فحسب، بل لصالح موارنة «14 آذار».

هذا النجاح الشعبي يختصر الزمن اللازم لتأهيل سعد للحكم. وهو يدرك بوعي ما المطلوب: «بات أمامنا أن نري كيف يمكن أن نبني لبنان». وهو في تواضعه وحذره، يقول إنه سيستشير حلفاءه الأقرب، بل أيضا خصومه (حزب الله و«أمل»). وبالتأكيد، سيجس نبض السعودية، وربما سورية.

تعجبني صراحة سعد: «كنت من قبل افتقر إلى الخبرة». نعم، سعد تعلم كثيرا خلال السنوات الأربع الأخيرة التي مرت على رحيل والده (2005) وانغماسه الكلّي في السياسية. سأوفر على الشيخ سعد رأيي الشخصي، كصحافي يتابع بدقة مسيرته السياسية، إنما سأنقل هنا رأيين لبنانين مختلفين حول ترئيسه.

بعض الساسة يرى أن الحريري قادر على حمل العبء الحكومي. حلفاؤه في «14 آذار» لن يبدوا معارضة، إذا كانت هذه هي رغبته. لا بد من التذكير أن الراحل رشيد كرامي ترأّس الحكومة وعمره 36 سنة (1956)، أي في سن متقاربة مع طويل العمر سعد، وإن كانت لكرامي تجربة مسبقة أطول في السياسة.

بعض الساسة يخشون على هذا الشاب اللامع أن «يحترق» في المنصب الذي احترق فيه دهاقنة السياسة. هؤلاء يقولون إن ميثاق الطائف ألقى مسؤولية كبيرة على رئيس الحكومة، في مقابل تحييد نسبي لمنصب «صاحب الفخامة». معظم هؤلاء من خيرة أنصاره «الصامتين» وليسوا من حاشيته «المستعجلة» على ترئيسه. هؤلاء الأنصار يفضلون أن يبقى سعد، في هذه المرحلة، في الشارع حيث نجح. حيث يواجه تيار «المستقبل» تحديا من تنظيم أقوي وأكثر انضباطا، تنظيم سياسي/ميليشيوي يتمتع بقيادة ذكية وخطابية، عارفة كيف تخدم طائفتها وفارسيتها.

نقلت بأمانة ما أسمع، وما أعرف، من دون أن أُبدي رأيا شخصيا. إنما أحاول أن أصارح الابن، كما كنت أصارح الحريري الأب. كنت أقول له إنك تعطي السوريين أكثر مما يستحقون. كان يرد بهمهمة طيِّبة أن لبنان لا يستطيع تجاهل سورية. سعد يدرك ذلك أيضا. فهو يقول إنه سيفصل منصب رئاسة الحكومة عن قضية محكمة الحريري الدولية. ها هو جنبلاط في مرحلة مراجعة الذات يدرك ذلك أيضا. يبقى أن يدرك ذلك موارنة «14 آذار» الذين عانوا من التهميش في الزمن السوري للبنان. رهان «14 آذار» على السعودية لا رجعة فيه لكن من الصعب، في زمن التقارب النسبي السعودي، السوري قيام حكومة في لبنان، على عداء مستمر مع نظام سوري، أي نظام يقوم في دمشق.

تعلمت من التجربة الطويلة، كون النصيحة الصحافية العلنية ثقيلة الوطأة على المسؤول والسياسي والنظام. الصحافي المحترف لا ينصح، في عجرفة، إنما هو قادر على المصارحة، في أمانة متواضعة. هذا دوري في أملي، مجرد الأمل في أن يسترشد «دولة الرئيس» سعد بتجربة وحكمة «دولة الرئيس» رياض الصلح. الراحل رياض هو الذي أقنع زعماء سورية في أوائل الأربعينات بعدم ممانعة استقلال لبنان. ثم كان رياض يحكم. ثم يستقيل. ثم يعود إلى «السراي». كان يترك لـ«قوارير» السنّة السياسية أن تتذوق، بدورها حلاوة النيابة والسلطة والمسؤولية.

رفقا بالقوارير، يا «دولة الرئيس» سعد.