فوز نجاد و«الرد» الآتي من طهران

TT

فاز أحمدي نجاد بولاية ثانية لرئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية «فوزا ساحقا»، ليكمل ما كان بدأه منذ أربع سنوات كانت حافلة بالأحداث الحامية وضعت المنطقة برمتها أمام خيارات صعبة ومفترق طرق رئيسي في تحديد هويتها السياسية للمرحلة المقبلة.

ففي حين كان يُنتظر أن تأتي «التغييرات» من لبنان بفعل التوقعات التي سادت قبل الانتخابات اللبنانية بأن المعارضة وفريقها وعلى رأسهم حزب الله سيفوزون بها، لتحقيق الغالبية النيابية من أجل إجراء «الانقلاب الأبيض» في وجه السلطة «المبهم»، أتت النتائج لتشير إلى استمرار الأزمة بالحد الأدنى في ما يبدو لأربع سنوات جديدة بانتظار الانتخابات المقبلة ما لم يطرأ أي جديد يعيد خلط الأوراق على غرار الأحداث الكبرى، والتي ليس أقلَّها حربٌ جديدة قد تبصر النور قريبا بعدما اتضح أن الرهان على التغيير من خلال المؤسسات لن يفلح في الوصول إلى الأهداف المبتغاة.

لم يعد بالإمكان الابتعاد عن صورة أن الرد على نتائج الانتخابات اللبنانية قد أتى من طهران بفوز أحمدي نجاد في ولاية ثانية ليستمر معها المشروع الذي رعته إيران في المنطقة خصوصا بعد حرب يوليو (تموز) 2006 التي أسست بالنسبة إليها لآمال كبرى عبرت عنها الجمهورية الإسلامية في أكثر من مناسبة كان آخرها ما أعلنه نجاد نفسه قبل نحو أسبوعين متوقعا «تغير وجه المنطقة» إذا فازت المعارضة اللبنانية بالانتخابات. إلا أن الفشل في لبنان كان يستوجب ردا إيرانيا مباشرا للحد من تداعياته الإقليمية بعدما أصبحت العملية السياسية فيه تلعب دورا محوريا في الاتجاه السياسي العام للشرق الأوسط برمته، ناهيك عن المشاريع الكبرى التي تحاول الولايات المتحدة ترسيخها بأسلوب جديد بعد فشل سياسة الرئيس السابق جورج بوش في تحقيقها بأسلوبه الحربي.

لقد كانت الأنباء الواردة من إيران حول الاستحقاق الرئاسي الإيراني تشير إلى إمكان إعادة انتخاب الرئيس الحالي، خصوصا في ظل التأزم الذي بدأ يطبع المرحلة الحالية في السياستين الدولية والإقليمية، وبعد تفجيرات مسجد زاهدان في جنوب شرق إيران قبل نحو ثلاثة أسابيع وتوجيه الاتهام مباشرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، علما أن العلاقة بين واشنطن وطهران كانت قد شهدت فصولا من «الغزل» على خلفية القضايا المتصلة بأفغانستان وباكستان والعراق.

وفي حين أن معظم استطلاعات الرأي كانت تشير إلى التنافس الحاد بين نجاد ومير حسين موسوي، فإن مؤشرات الأوضاع في المنطقة كانت دائما تعطي الأرجحية للرئيس الحالي الذي أرسى خطابا مناسبا في المرحلة السابقة بالنظر إلى طبيعة الأزمات التي واجهتها الجمهورية الإسلامية في السنوات الأربع الأخيرة، لا سيما على خلفية المواجهة التي تخوضها في موضوع ملفها النووي وتخصيب اليورانيوم.

غير أن ما كان يستشرفه الإيرانيون للمرحلة المقبلة يقتضي المضي في الخطاب السياسي لنجاد الذي تمرس فيه ويعكس برنامجه في مواجهة السياسات الأميركية التي على الأرجح قد خضعت للضغوط الإسرائيلية بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لواشنطن في الفترة الأخيرة، خصوصا أن طهران تؤمن بأن ما يُحكى عن تباينات في وجهتي النظر الأميركية والإسرائيلية حول الأولويات السياسية لكل من الطرفين في المنطقة «لا يفسد للود قضية»، فواشنطن محكومة بالمصالح الاستراتيجية التي تربطها بإسرائيل تاريخيا من جهة، وهي بالتالي لن تستطيع الضغط على تل أبيب التي تتولى السلطة فيها اليوم حكومة متشددة تنطلق من أوليات تعبّر عنها التصريحات والمناورات «الكيانية» التي نفذتها وتبررها واشنطن بـ«القلق الأمني» الذي تشعر به إسرائيل من جهة ثانية، في الوقت الذي تعتبر فيه تلك المناورات رسالة إسرائيلية ـ أميركية مشتركة «قوية جدا» إلى دول المنطقة لا سيما إيران ولبنان إضافة إلى فلسطين وسورية.

وفي هذا السياق، فإن الإيجابيات التي تحاول إدارة أوباما أن تبديها حيال الأزمات في المنطقة وانعكست من خلال تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلية «أفيغدور ليبرمان» التي فاجأت الجميع حول إيران وبرنامجها النووي، قد لا تستطيع الصمود أو حتى الانتظار بحسب الطلب الأميركي، أمام الواقع المـتأزم للمنطقة في ظل المواقف وسقف المطالب لمعظم أطرافها، في حين أن بعض المصادر الديبلوماسية الإيرانية المقربة من نجاد تؤكد ضرورة الحذر من الخطاب «الليّن» لإسرائيل الذي غالبا ما يكون مقدمة لمفاجأة محزنة.

لقد بات معروفا أن السياسات الدولية وأوضاع المنطقة هي التي تشكل الناخب الأول لأي رئيس إيراني وتحديدا أحمدي نجاد الذي سجل الإيرانيون إعجابهم به بشكل ملحوظ وبقدرته كرئيس في المواجهة «على طريقته»، رغم كل الصعاب الاقتصادية التي يعانيها الإيرانيون في ظل حصار لم يفلح حتى الآن في خنق إيران الساعية إلى مكانة «مرموقة» بين دول العالم.

الإصرار الإيراني على دعم نجاد وسياسته يأتي ليعبّر عن التوجه في الحفاظ على ما يعتبره الإيرانيون مكتسبات هامة جدا لا يمكن التفريط فيها وهي تتعلق بالتفوق الاستراتيجي في المنطقة، الأمر الذي لا يمكن المساومة عليه أو حتى التخفيف من حدة اللهجة التي اعتمدها «أحمدي» في خطابه الداخلي والخارجي، وحيث قامت الحملات الانتخابية للمرشحين المنافسين على استنكاره في الوقت الذي سرق فيه ذلك الخطاب أنظار العالم بأسره بغض النظر عن سلبيته أو إيجابيته إضافة إلى لومه على تقصيره في الإنماء والإصلاحات الداخلية وهم يعلمون جيدا أن تحقيق ذلك ليس في يد نجاد ولا حتى منافسيه إذا ما تولوا السلطة، لأن المواجهة التي تخوضها إيران مع الخارج تقتضي الانصراف إليها على كل المستويات ولو على حساب المستوى الداخلي الذي لم يغب على ما يبدو عن سياسة نجاد في ولايته الأولى، حيث صرف الكثير لتنمية المناطق الداخلية على حساب المدن الكبرى في إيران.

لم يستطع معارضو نجاد التقدم نحو الرئاسة رغم كل الشعارات التي رفعوها وما يحظون به من دعم مجموعة كبيرة من أهم الشخصيات السياسية الموصوفة «بإصلاحيتها» في الجمهورية الإسلامية التي لها بشكل أو بآخر «ثأر» على نجاد، وهي كانت قد تحضرت جيدا للانقضاض عليه، كما أنها ضغطت في سبيل عدم دعمه وتبنّيه من قِبل المرشد الأعلى السيد على الخامنئي. وقد بدا ذلك واضحا من خلال المناشدات التي وجهها الشيخ هاشمي رفسنجاني واعتبرت مخالفة للبروتوكول المعتمد في مخاطبة أعلى سلطة في إيران لأن رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام قد أقدم على نشرها في وسائل الإعلام في محاولة للتأثير في الناخبين من جهة وإحراج الخامنئي من جهة ثانية، إلا أن ما حققه نجاد يشكل رصيدا كبيرا له خصوصا لدى القائد الأعلى للجمهورية على الرغم من الانتقادات الحادة التي وُجهت إليه والحكم على فشل سياساته الداخلية، إلا أن القضايا الخارجية ستظل العامل الأقوى والأساس في انتخاب كل رئيس مقبل لإيران.

بعد فشل المعارضة وحزب الله في لبنان في الحصول على الغالبية النيابية وفوز نجاد في إيران، تتجه الأنظار حاليا إلى المحطة الثالثة التي لا يمكن فصلها عن المسار السياسي العام في المنطقة والمرتبطة ارتباطا وثيقا بمجريات الأمور في لبنان وإيران، وهي محطة الانتخابات العراقية المقبلة التي من المفترض أن تجري في ديسمبر (كانون الأول) من العام الجاري لتكتمل معها صورة التحرك الأميركي وخطواته ـ العربية ـ علّ الأوضاع تتجاوز العودة إلى «نقطة الصفر» في غياب الحلول الواقعية للأزمات في المنطقة.

* كاتب لبناني