الملك عبد الله.. والإرادة السياسية

TT

لا يزال الاختلاف قائما بين رؤيتين للتنمية والتحديث والإصلاح في العالم الثالث: الأولى متشائمة تسأل عن فائدة المبادئ والسياسات والمثل العليا والتوجهات الإصلاحية المثالية للتحديث، إذا كان هناك في الواقع معوقات، تعطل التطبيق الحرفي لهذه المبادئ والسياسات والتوجهات. والرؤية الثانية تؤكد أنه لولا وجود هذه المبادئ والسياسات والتوجهات المثالية لما تقدمت الأمم والشعوب، ولما قامت الحضارات، ولما تغير الناس للأحسن، لأنهم يقتدون بهذه المبادئ والقيم، ولنا المثل الأعلى في ما جاء به الدين الإسلامي الحنيف من مبادئ وقيم ومثل عليا، استطاعت أن تغير قوما من البدائية والجهالة إلى أصحاب حضارة وتقدم.

والمتأمل في نماذج التنمية والإصلاح، التي قدمها أصحاب الفكر الحديث في دراساتهم للعالم الثالث سواء من المدرسة البنيوية أو من المدرسة الوظيفية، يجد أنهم نجحوا في أن يشخصوا مشكلات التنمية والإصلاح في هذه الدول، التي تأخرت عن الأخذ بأسباب التقدم والمعاصرة، لأسباب بيئيه معيقة، على الرغم من وجود المبادئ والسياسات.

إلا أننا نميل إلى الأخذ بالرؤية الثانية، التي تؤمن بأهمية المبادئ والسياسات والتوجهات، فهي التي تقود محاولات التطوير والإصلاح، إلى الأفضل والأحدث، لما لها من تأثير انتشاري، في ترسيخ هذه المبادئ وتطبيقها في الواقع. ولولا تمسك القيادات السياسية العليا بهذه المبادئ، وإصرارهم عليها والتعبير عنها، في ما يصدر من أنظمة ولوائح ومراسيم، وأوامر سامية، لما كان هناك أمل في التطوير والإصلاح والتقدم، فهذه الأنظمة وما تعكسه من مبادئ سامية وسياسات عليا، هي بمثابة النبراس الذي تهتدي به المنظمات والمؤسسات الحكومية في عملها، نحو مزيد من التطور والتقدم، مما يؤكد الدور الذي تلعبه القيادة السياسية، حين ترسّخ في وعي الأمة مبادئ تساعد على التغيير والتقدم، مما يؤكد أهمية الإرادة السياسية والرسالة والقيم والمبادئ التي تعبّر عنها. إن خلاصة هذه الرؤية، أن هناك أملا في أن يحدث التطور والإصلاح في دول العالم الثالث، في ظل وجود القيادات، التي تعطي المثل والقدوة العليا، وتوضح الرسالة والاستراتيجيات والسياسات اللازمة للتطوير والتقدم.

وليس بخارج عن هذا المسار، ما يحدث في السعودية الآن من خطوات إصلاحية وقفزات في المجالات كافة، ومن أهمها الإصلاحات التي طالت المنظومة العدلية بصفة خاصة. فكل ذلك مبني في الأساس على إصرار القيادة السياسية، وإرادتها الصادقة في إعادة تشكيل المعاني قبل المباني. عبر المشروع الريادي الضخم المعروف باسم مشروع الملك عبد الله لتطوير القضاء، الذي صدر عنه عدد من الأنظمة الحديثة، المواكبة للتطلعات والطموحات، والمسايرة لركب العالم المعاصر، مع ما تتميز به في أساسها من الأصالة الشرعية، ويتجلى ذلك في عدة صور، منها إعادة تشكيل الشكل الهرمي للجهاز العدلي، بحيث يتكون من ثلاثة رؤؤس، هي المحكمة العليا، والمجلس الأعلى للقضاء، ووزارة العدل، ولكل منها من التفرد بالاختصاصات والتنسيق المشترك، ما تكفله الأنظمة المصوغة بدقة وعناية. هذا من حيث الشكل.

أما الحداثة من حيث الموضوع، فتتضح في مبدأ تأصيل الأحكام وتقعيدها، ووضع المبادئ، وذلك لما في الحياة المعاصرة، من متغيرات ومستجدات، وقد تم إسناد هذا الدور إلى المحكمة العليا، فالمحكمة العليا تقع على رأس الهرم القضائي، بصفتها محكمة قواعد ومحكمة مبادئ. كما تم إيجاد المحاكم المتخصصة، وهذه التغيرات الشكلية والموضوعية، لم تصرف الاهتمام عن الأصالة، فالمعاصرة والحداثة لا تتناقضان مع الأصالة، المتمثلة أساسا في الحكم بما تقضي به الشريعة الإسلامية، كما ورد في المادة الأولى من نظام القضاء، وكما نصّت المادة الحادية عشرة، من نفس النظام على أن تتولى المحكمة العليا مراقبة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وأن ما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا يتعارض معها.

الخلاصة أن الحداثة والمعاصرة مع المحافظة على الأصالة (المتمثلة في الحرص على التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية) في بنية ووظائف منظومة الدولة السعودية هو منهج وضعة الملك المؤسس عبد العزيز رحمه الله، منذ قيام الدولة السعودية الحديثة.

وسارت علية الدولة في مراحل البناء كافة. وهذا دليل واضح على قدرة السعوديين، وقيادتهم الحكيمة، على التجدد والانبعاث من جديد، لمقابلة استحقاقات ومتطلبات كل مرحلة من مراحل بناء هذا الكيان، وهذه سمة من سمات حيوية الدول، وقدرتها على البقاء، إلا أن مسابقة الزمن نحو المعاصرة مع المحافظة على الأصالة، تبقى سمة من سمات الملك عبد الله وإرادته السياسية.

[email protected]