حان وقت حل القضية الفلسطينية؟!

TT

أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة في ا-لولايات المتحدة قام باراك أوباما المرشح في ذلك الوقت ممثلا للحزب الديمقراطي بزيارة إلى مدينة برلين فخرج له من الشعب الألماني مائتا ألف في مشهد مثير لم يحدث في التاريخ من قبل إلا عندما قام جون كنيدي الرئيس الأمريكي بزيارة للمدينة ووقف عند حائط برلين مطالبا الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو بهدم هذا الحائط. أيامها كان ذلك حدثا من الأحداث الدرامية للحرب الباردة، وظل خروج أهل برلين بهذه الكثافة حدثا تاريخيا يدلل على الحب والزعامة الشخصية التي حظي بها كنيدي لأسباب عدة ليس هذا وقت سردها. في هذه المرة لم يكن أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وإنما مجرد مرشح جعل من زيارة برلين جزءا من حملته الانتخابية وهو المتهم من قبل خصومه أن لا خبرة لديه بالشؤون الخارجية؛ ولم يكن هناك حائط يدعو صاحبنا لهدمه، فقد هدم بالفعل عام 1989، فما الذي يا ترى كان سر اجتماع مائتي ألف جاءوا من كل صوب لكي يعطوا التحية لمرشح أمريكي من أصول أفريقية، وله اسم «مضحك» كما اعتاد أوباما نفسه على المزاح!.

تفسير هذه الظاهرة سوف يكون وظيفة المؤرخين، ولكن المؤكد أن جون ماكين المرشح المنافس وجد نفسه في مأزق، فهو يعلم تماما أن زيارة له إلى برلين مهما كان الجهد والإنفاق لن توفر له إلا بضع مئات، وكل تاريخه الشخصي وخبرته في العلاقات الدولية لن تفسر فقر شعبيته في العالم مقارنة بمنافس ليس لديه خبرة على الإطلاق. ولكن خبراء المرشح الجمهوري كان عليهم البحث عن حل لمرشحهم فكان النشر على نطاق واسع لصورة باراك أوباما في مواجهة جماهير، وفي مقابلها صورة أخرى للمغنية الشهيرة بريتني سبيرز وهي تغني أمام جمهور مماثل، وفوق الصورتين كان تعبير «سياسة المشاهير POLITICS OF CELEBRITIES». وكان المعنى أن أوباما لا يوجد لديه شيء له معنى سياسي، وإنما مجرد قدرة على مداعبة الجمهور، واللعب على غرائزه، والتلاعب بمشاعره وأحلامه، وبعد ذلك لا يوجد سوى خواء وهواء من الكلمات الطنانة ولا شيء قبل أو بعد.

وبالطبع نعرف الآن أن هذه الاستراتيجية لم تنجح، ولكن هذه الاستراتيجية ذاتها كانت هي التي اتبعها العديد من المفكرين العرب الذين عجزوا عن فهم ظاهرة أوباما، سواء عندما كان في برلين، أو عندما وصل إلى جامعة القاهرة. وفي مصر وحدها اجتمع الأساتذة محمد حسنين هيكل (الناصري أو القومي إذا شئت)، وفهمي هويدي (الإسلامي) وإبراهيم عيسى (الليبرالي)، مع السيد مهدي عاكف (المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين)، مع الدكتور عزمي بشارة (القومي العربي) على أن خطاب أوباما كان درسا في «العلاقات العامة». وربما كان ذلك هو الطريقة المخففة التي واجهت بها جماعتنا ذلك الاستقبال الحافل الذي تلقاه أوباما في جامعة القاهرة، والأكثرية من الطلبة التي قالت له هاتفة «نحن نحبك يا أوباما»؛ فلم يكن باستطاعتهم بالطبع استحضار بريتني سبيرز، ولعل المرشد العام لم يسمع عنها أبدا، ولكن النتيجة كانت واحدة، وهي أن الرجل جاء من أمريكا لكي يسلب عقولا لا أن يفعل فعلا. وكانت الحجة هي أن أمريكا بلد للمؤسسات ولا يمكن لفرد أن يعيد اختراعها وكأن وظيفة الانتخابات في الدول الديمقراطية هي نوع من ممارسة الرياضة وبعدها ينفض السامر وينتهي الاحتفال، وكانت الحجة هي مساندة الدول العربية المعتدلة مصر والسعودية والأردن وكأن هذه الدول كانت بسبيلها إلى الانهيار حتى باتت في حاجة إلى خطبة رئيس أمريكي لكي يصلب عودها، كما كانت الحجة أن شخصا أمريكيا ذكيا وجدها فرصة للتلاعب بمشاعر نخبة ضعفت قلوبها وعقولها وتهافت وجدانها حتى باتت على استعداد للقبول والهيام بكل ما يقال لها رغم أن كل ما جاء لها كان قولا لا فعلا، فلم يكن مقبولا من زائرنا أقل من أن يأتي إلى أرض العرب والمسلمين وقد أزال المستوطنات وطرد اليهود من الأرض المقدسة!.

مثل ذلك بالطبع لا يوجد في السياسة الدولية، والحقيقة أن أوباما لم يأت بالكلمات وحدها بل جاء بعد أن بدأت بالفعل عملية التحضير للتسوية في الشرق الأوسط، وجاء خطابه بعد سلسلة من الأفعال كان منها تعيين مبعوث خاص للقضية الفلسطينية ـ جورج ميتشل ـ وعقد لقاءات مع قادة المنطقة وممثليها، وجاء الخطاب بعد ذلك كفعل في حد ذاته، حيث تكون خطب الرؤساء دائما أكبر من الكلمات. ولم تنته الضجة على الخطاب حتى كان ميتشل في المنطقة يلف بها ويتفاوض فيها حتى وصل إلى دمشق، وساعتها كان خالد مشعل في القاهرة، وكانت الانتخابات اللبنانية تمر بسلام إلى الدرجة التي تهزم فيها جماعة حزب الله دون احتلال عسكري لبيروت هذه المرة، كما كانت الانتخابات الإيرانية تتأرجح ما بين الراديكالي والمعتدل لأول مرة منذ وقت طويل بدا فيها كما لو كان الراديكالي قد احتكر الساحة.

وباختصار كانت السياسة بمعنى تغيير الواقع على قدم وساق، وعندما زار أوباما برلين كان يرسل إشارة إلى الحلفاء في أوروبا أن عالما جديدا ينتظر تعاونا أوثق بين شركاء الديمقراطية للأخذ بيد العالم، وعندما وصل إلى القاهرة كانت القضية هي كيف يتغير تعريف العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب من قيام على خلافات في الرؤى إلى العمل من خلال توافق المصالح. ومن هنا فإن تسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية هي جزء من كل، وهي ساحة إما أنها تمزق الدنيا بين شرق وغرب، أو أنها تكون المكان الذي تلتقي فيه المصالح كما التقت الأديان السماوية كلها في مدينة القدس.

كل هذا الذي جرى قبل وبعد زيارة أوباما لم يكن علاقات عامة بل كان ممارسة للسياسة والفعل في أدق معانيهما من أجل تغيير واقع غير مقبول. والمشكلة في الأمر أن هذه السياسة لا تظهر إلا من جانب واحد، فالتحركات الأمريكية، والاستجابات الغاضبة تأتي من جانب إسرائيل، وحتى خطط القبول والرفض، ولكن الجانب العربي الذي يشارك في ذلك كله إما أنه يفضل الصمت، أو يكتفي بترديد العبارات المعروفة في كل الأوقات حول الثوابت التي لا يمكن التراجع عنها. والحقيقة أنه لا توجد مشكلة مبدئية مع هذا المنهج، ففي النهاية فإن إسرائيل هي التي تقوم باحتلال الأرض العربية، وهي التي تسوم الفلسطينيين العذاب، وهي التي ارتكبت من الجرائم ما جعل الصراع مستمرا طوال الوقت. ولكن السياسة إذا كان معناها وهدفها هو تغيير الأمر الواقع لأنه غير مقبول، فإنها لا تكتفي بترديد الثوابت أو الإشارة المتواترة إلى المبادرة العربية، ولكن عليها الإجابة عن السؤال كيف سيكون حال إسرائيل بعد قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية وتم الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة الأخرى وجرى إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين لا يخل بوجود دولة إسرائيل في المنطقة؟!

ففي أصول السياسة والتفاوض فإن أي حل لا يمكنه إزالة واحد من أطراف القضية، وإلا انتقل بها من السياسة إلى «الصراع» حيث تحسم الأمور من خلال السلاح.

وببساطة فإن أوباما لم تكن زيارته للسعودية ومصر من أجل العلاقات العامة، وإنما من أجل العمل على حل القضية الفلسطينية، ومن ثم وضع الكرة ليس فقط في الملعب الإسرائيلي ولكن في الملعب العربي أيضا. وعندما تكون الكرة في الملعب الإسرائيلي فإن القضية سيتنازع عليها من هو على استعداد للعمل على مصالحة تاريخية بين العرب والإسرائيليين، ومن هو على استعداد للاستمرار في عداء تاريخي هو الآخر؛ وفي العالم العربي فإن القضية سوف يتنازع عليها من يريدون الانتظار لعل القضية تحل نفسها، ومن يريدون وضع المسألة على كاهل أوباما فربما يجد حلا يعفي الجميع من كل الحلول. فهل يظهر معسكر عربي جديد يسعى إلى حل القضية التي أعيت أجيالا وشعوبا وأمما لسنوات وعقود ويجيب على الأسئلة التي لا يحب أحد الإجابة عليها؟!