«نجاح» أحمدي نجاد ينقل إيران إلى اليمين المتطرف

TT

كأن التاريخ يعيد نفسه في إيران، إذ لأول مرة منذ نجاح الثورة الإسلامية لم يتحرك الشارع الإيراني بهذه الطريقة. عام 1979 كان العدد الضخم للناس في شوارع طهران، العامل الحاسم لزعزعة كل أجهزة نظام الشاه، حيث لم يستطع الجيش وقوى الأمن والسافاك فعل أي شيء، بل وقفوا جانبا، وتركوا الناس يعبرون عن تطلعاتهم.

هكذا بدأت الثورة. اليوم رأينا الشيء نفسه يحدث. بحر من الناس تدفق على الشارع وقوات الأمن شبه عاجزة عن تفريقهم أو مواجهتهم إلا بالرصاص. عام 1979، المظاهرات أدت إلى التغيير الجذري في إيران الذي وصل رذاذه إلى العالم كله ولما يزل. اليوم من الصعب التنبؤ بشيء. الوضع متقلب جدا، سقط ضحايا، وكالعادة يدفع طلاب جامعة طهران الثمن الأغلى، كما حال الطلاب في تبريز وشيراز وقد تزداد الأمور بشاعة، لكن في الوقت نفسه وفي مقابل هؤلاء المتظاهرين هناك المتشددون الذين سيدافعون بكل الوسائل التي بين أيديهم ويواجهون اندفاع المتظاهرين.

بنظر كثيرين، ما حدث هو الأخطر الذي يتهدد النظام الإسلامي الإيراني خلال ثلاثين سنة، النظام بمعناه الشامل: الحكومة، ومراكز القوى بينها موقع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي. لم يواجه النظام مثل هذا التحدي سابقا وعلى هذا المستوى، يكاد أن يفقد شرعيته، إذ أن هذا العدد الضخم من الناس في شوارع طهران يعني ضربة قوية لشرعية النظام وركائزه داخل إيران وعلى المستوى العالمي، ومن الصعب على النظام أن يعود إلى ما كان عليه الأسبوع الماضي، وكأن شيئا لم يكن لقد فقد مصداقيته. يقول لي أحد الإيرانيين في لندن: «لقد صعقنا بالنتائج. كنا نتوقع دورة ثانية، لكن يبدو أن محمود أحمدي نجاد حسب أن دورة ثانية مع مير حسين موسوي قد تكون بمثابة مغامرة، خصوصا أنه في نهاية شهر أيار (مايو) كان موسوي يتقدم على أحمدي نجاد في أكبر عشر مدن إيرانية بنسبة لا تقل عن 4%». ووصلني إي ـ ميل من إيراني آخر يحمل دكتوراه في الاقتصاد، كان في الثالثة من عمره عندما غادر أهله إيران إلى ألمانيا، وتربطه الآن ببلاده جدته التي لا تزال تقيم هناك، يقول فيه: «لا أعرف ماذا يعتريني بالنسبة إلى الأحداث في إيران. أشعر بأمل وغضب، بوطنيتي وانتمائي، بفخري، كما أشعر بالتشاؤم، كل هذه المشاعر تعتريني في وقت واحد، ولنأمل الأفضل».

التحركات والتحالفات التي أحاطت بالمرشحين الأربعة، أعطت أبعادا أكثر من التنافس على الرئاسة، وكأنها صراع قديم يتجدد بين فترة وأخرى، ما بين المرشد خامنئي والرجل الثاني في إيران هاشمي رفسنجاني. ويوضح لي المحلل السياسي الإيراني مير جويدانفار، أن «ما جرى كان صراعا على السلطة ما بين خامنئي من جهة، والرئيس السابق محمد خاتمي ورفسنجاني ومير موسوي والأئمة في قم».

لم يكن الأئمة في قم راغبين بأحمدي نجاد كرئيس، بسبب «ثورة صامتة» انطلقت في إيران منذ عام 2001، ومعها بدأت السلطة السياسية والاقتصادية تُسحب تدريجيا من أيدي رجال الدين، وتصب في أيدي شخصيات ثورية. خامنئي يقف وراء هذه الثورة، هو يرتبط بعلاقات قوية مع الحرس الثوري (مؤسسها)، شعر بأن رجال الدين يقيمون في المساجد. أما المستعدون للتضحية بأنفسهم دفاعا عن الثورة فهم الشباب في المدن والقرى. كما أن رجال الدين الذين عاشوا الثورة كبروا في السن، والجيل الجديد منهم تنقصه المهارة والالتزام التام، وهذا لا ينطبق على الثوريين الذين كانوا في العشرينات من العمر مع بداية الثورة، وهم الآن في الخمسينات وبينهم أحمدي نجاد ومحسن رضائي.

يقول جويدانفار: في إيران منظمة «رجال الدين المقاتلون» وهم من اليمين المتطرف، كما أن هناك منظمة أخرى يسارية، الثانية بالطبع لم تؤيد أحمدي نجاد، أما اليمينية فقالت: إنها لن تدعم أي مرشح في الانتخابات. وهذا أسلوب إيراني مهذب لرفض أحمدي نجاد. وأثار هذا حفيظة خامنئي.

هاتان المنظمتان داخلتان في الصراع على السلطة أيضا. مع تداعيات نتائج الانتخابات، ذكرت بعض التقارير أن رفسنجاني بوصفه رئيس مصلحة تشخيص النظام، ومجلس الخبراء ينوي الإطاحة بالمرشد خامنئي. يقول جويدانفار: «كلا وعلينا أن نتذكر أن البقاء بالنسبة لخامنئي هو هدفه الأول، ثم إنه على استعداد للتوصل إلى صفقة».

بداية الصفقة موافقة خامنئي على أن يراجع مجلس صيانة الدستور النتائج، وإذا رأى أن المظاهرات ستتضاعف، فمن المؤكد أن يسعى لإيجاد تسوية. ويبدو أن خامنئي تعلم درسا بأن لا يغلق الباب في وجه أحد، وقد يتم التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين. (أحمدي نجاد ومنافسيه). والمعروف أن قوة أحمدي نجاد مستمدة من دعم خامنئي له، لكن هذا الأخير إذا شعر بأن الوضع يكاد يفلت عن السيطرة، فقد يتراجع عن دعم نجاد.

يقول جويدانفار: «علينا مراقبة ثلاثة عوامل. إذا شاركت شخصيات معروفة في مواجهات الشارع، وإذا انتشرت المظاهرات إلى مدن أخرى، وإذا تم إلحاق المظاهرات بإضرابات تستمر لأكثر من أسبوعين».

لم يكن خامنئي يتوقع ردات فعل كالتي جرت. لو أطل على الناس، لربما تذكر العالم منظر الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو وهو على الشرفة يلوح بيديه لإسكات المتظاهرين، فإذا بهم يهتفون ضده، حتى وصل الأمر إلى إطلاق النار عليه وعلى زوجته.

كانت فرحة أحمدي نجاد واضحة في مؤتمره الصحافي، وفي الكلمة التي وجهها لأنصاره يوم الأحد الماضي، هو لا بد كان يعتقد بأنه قدم ثاني خدمة لخامنئي. الأولى عندما هزم رفسنجاني في الانتخابات الرئاسية السابقة بالتزوير، وهذه المرة بهزيمته «المفترضة» لموسوي الذي كان رئيسا للوزراء في الثمانينات، خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، و«استعمله» آية الله خميني للسيطرة على سلطة الرئيس آنذاك وكان خامنئي.

أسأل جويدانفار الذي قال إن خامنئي ظن بأن الإصلاحيين سيلتزمون ويذهبون بهدوء إلى بيوتهم فتلقى مفاجأة، عن احتمال أن يحدث في إيران ما حدث في لبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، عندما اعتقد السوريون بأن اللبنانيين سيضجون لأيام قليلة، ومن ثم يصمتون؟ يجيب: «من المبكر التخمين، لقد أشرت إلى الشروط الثلاثة، فإذا استمرت لأكثر من أسبوعين، فكل الاحتمالات واردة» ويضيف: «إن أهم من المظاهرات ما يدور وراء الأبواب المغلقة. الصفقة التي ستعقد. خامنئي له عقلية رجال الأعمال. لقد كانت خطوة ناقصة، لكن خامنئي يفكر ببطء، وسيحاول إيجاد مخرج من هذا المأزق. علينا أن ننتظر لا أن نتسرع، وسيجد حتما مخرجا من هذه الأزمة». وهل حكومة اتحاد وطني هي المخرج؟ يجيب: «من المستبعد، لأن أحمدي نجاد غير مستعد للعمل مع أحد».الذي زاد من «ثقة» أحمدي نجاد، تفريغ خامنئي لابنه «موجتابا» كي يتكفل بتأمين انتخاب أحمدي نجاد ومن ثم إعادة انتخابه.

الآن، إذا تم التوصل إلى تسوية، فإن الجيل الإيراني الشاب سيشعر بأنه شارك في صنع المستقبل. وإلا، فإن خيبته ستكون كبيرة جدا، كل شيء يعتمد على ما يدور وراء الأبواب المغلقة ويجري العمل عليه من خلال مجلس صيانة الدستور.

لقد وقف الإيرانيون (بعضهم) مع موسوي لأنه وعد بحرية التغيير، وحرية العيش. كما أنه يريد إصلاح النظام، بحيث يتماشى مع العالم، ثم إن الشعب الإيراني يريد التغيير تدريجيا. ومع تأثير وقع الرئيس الأميركي باراك أوباما على الأحداث العالمية، شعر الإصلاحيون بالقوة، والمتطرفون بالذعر. لكن خامنئي يدرك أنه إذا تصارع رجال الدين وكبار الشخصيات في ما بينهم، فإنهم سيهدمون النظام فوق رؤوسهم، لهذا يعمل حثيثا للتوصل إلى صفقة.

قال لي ديبلوماسي غربي: «إذا لم يصدر أي تصريح ناري من أي دولة غربية، فتأكدي أن الوضع غير مريح في إيران». هذا لا يعني أن الغرب لا يراقب الأحداث، فهناك البرنامج النووي، وكذلك أمن الطاقة، إيران ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة «أوبيك»، بعد السعودية، وتجلس مقابل مضيق هرمز الذي تعبره يوميا ناقلات النفط.

يشير الدبلوماسي الغربي إلى اقتناعه بـ«فوز» أحمدي نجاد. ويقول: «ليس الغرابة في أنه فاز، بل في اعتقاد الآخرين بأنه لن يفوز».

إذن، أين ستصبح مبادرة الرئيس أوباما في الانفتاح على إيران؟ لقد جمدت الانتخابات الأوضاع، فلا الأميركيون ولا الإيرانيون سيقدمون على أي خطوة مميزة. حتى روسيا تفضل مراقبة الأوضاع، فإيران تعتبر جزءا من ملعبها الخلفي، أما الأوروبيون فقد تعرضت سفارتا بريطانيا وفرنسا لغضب المتظاهرين الموالين لأحمدي نجاد.

في رسالته إلى العالم الإسلامي، اعتذر الرئيس أوباما عن التدخل الأميركي عام 1953 للإطاحة بانقلاب محمد مصدق، وبهذا ختم على أي تدخل أميركي في عهده. وإذا نجح «انقلاب» أحمدي نجاد، فإن تغييرا سياسيا جذريا إلى اليمين سيحدث في إيران، وسيصل وقعه إلى المنطقة كلها، وبالذات إلى لبنان.