خطاب نتانياهو: يستطيع الاحتلال أن يسمى دولة

TT

اعتمدت معارضة اتفاقيات أوسلو على أن الانتهاء من الاحتلال هو شرط ليس فقط لقيام الدولة الفلسطينية، بل هو شرط أيضا للحديث عن دولة فلسطينية. ولا يوجد أكثر من خطاب نتانياهو ليؤكد على ذلك: إذا كان الحديث عن دولة يستطيع أن يبدأ بمفاوضات وتنسيق أمني يجريان تحت الاحتلال، وفي ظله وتحت مظلته، وضمن تعايش شبه سلمي مع حصار وحرب على غزة ومع الاغتيالات والاعتقالات وتوسيع الاستيطان والحواجز العسكرية، فإنه على الأغلب سيستطيع أيضا أن ينتهي بدولة تحت السيادة الجوية للاحتلال، وتحت الحصار البري للاحتلال، وضمن تعايش سلمي مع استيطان داخلي. و«على الأغلب سيستطيع» تعني التحفظ على أنه رغم المنطق الذي يربط بين مفاوضات تحت الاحتلال ودولة تحت الاحتلال، فإن التاريخ لا يعتمد على حتميات. خطاب نتانياهو، احتاج لحالة متواصلة من الضعف العربي، ومن التنازلات العربية والفلسطينية، لكي يخرج كما خرج علينا الآن.

لقد عكس الخطاب الحالة العربية، تماما كما عكس الحالة الإسرائيلية، ودائما كان التعنت الإسرائيلي وجها آخر من وجوه الضعف العربي. لقد انشغل الإعلام الإسرائيلي لمدة أسبوع تقريبا بخطاب نتانياهو، طيلة هذا الأسبوع لم يذكر الإعلام الإسرائيلي إلا لماما، ردة الفعل العربية المتوقعة، ولم يذكر إلا أقل من لماما ردة الفعل الفلسطينية المتوقعة.

لقد اعتمدت الحسابات السياسية للخطاب على سياسات إسرائيلية تحسب حسابا لطرفين لا ثالث لهما: اليمين الإسرائيلي، الذي هو جزء من الائتلاف الحكومي، والإدارة الأمريكية. الطرف الفلسطيني هو طرف في الاحتلال فقط، لكنه ليس طرفا في السياسة، وإسرائيل ليست في لعبة شطرنج مع العرب، وخطوات الطرف الآخر ليست ضمن حسابات اللعبة. لقد تغلب نتانياهو على كافة بل بالأحرى على كل المحللين، الذين رجحوا أن نتانياهو لن يعطي التزاما بوقف المستوطنات، ولن يذكر دولة فلسطينية بشكل مباشر إرضاء لليمين، لكنه سيذكر خارطة الطريق تلميحا للدولة الفلسطينية إرضاء للإدارة الأمريكية. لقد ذكر نتانياهو الدولة الفلسطينية مباشرة، لكنه أبعدها حتى عن مستحقات خارطة الطريق.

نتانياهو، الذي «وافق» على العودة للمفاوضات، قصد بعبارة «دون شروط مسبقة»، ليس العودة لنقطة الصفر، حيث غياب الشروط يعني أن الخيارات مفتوحة على وسعها، بل قصد الانتقال فورا لنقطة النهاية، أي لحالة لا حاجة فيها أصلا لشروط مسبقة، كون الخيارات مغلقة تماما: القدس تبقى محتلة عاصمة لإسرائيل، لن يتم تفكيك الاستيطان، بل سيستمر البناء فيه على المساحات الشاسعة التي سبق وصودرت، دون حاجة لمصادرات إضافية، لا لعودة اللاجئين، لا للانسحاب الكامل من الأراضي التي احتُلّت عام 67. مضيفا التصورات الإسرائيلية للأمن، التي هي ليست من إنتاج نتانياهو، فقد سبق لحكومة «كاديما» أن تحدثت عنها: دولة منزوعة السلاح، لا سلطة لها على حدودها الجوية أو البرية، ولا على علاقاتها الخارجية. بهذا المعنى، نتانياهو لا يتراجع عن الاتفاقيات السابقة فقط، بل هو يتراجع حتى عن الحاجة لاتفاقيات لاحقة، هنالك تراجع في مفهوم المفاوضات، إذ لم يُبقِ نتانياهو شيئا للتفاوض عليه. بالتالي ما يقصده نتانياهو برفض التفاوض، ليس أنه لا يريد التفاوض، بل بمعنى أنه لا داعي للتفاوض، وأن المطلوب فقط هو تحويل الوضع القائم من حالة صراع إلى حالة حل!

وإذا كان الداعي أن الفلسطينيين يريدون دولة، فليسموا الوضع القائم دولة، وكما لعبة «البيت وبيت» التي كنا نلعبها ونحن صغار، نتخيل أننا «كبار» ونتقمص أدوار «الكبار»، ونرتدي ثياب أمهاتنا، يستطيع الفلسطينيون أن يلعبوا «بيت وبيت» الدولة، ويتقمصوا دور الشعوب التي تحررت، و«يرتدوا» علما.

والحقيقة أن نتانياهو ليس صاحب الإبداع في تحويل الاحتلال إلى «تحرر»، وقد سبق لإسرائيل ونجحت عالميا في تسويق حالة من الاحتلال على أنها حالة سيادية، ونتانياهو لم يعمل شيئا سوى أنه وسع موديل «إنهاء الاحتلال» على غزة، ونقلها إلى سائر المناطق الفلسطينية المحتلة، وربما اعتمد نتانياهو على نجاح موديل «تحرير» غزة عالميا.

نتانياهو لا يريد حماسْتان في الضفة، لكنه يريد سجنستان في الضفة، لا يريد نقل سلطة حماس للضفة، لكن يريد نقل سجن غزة للضفة. ضمن هذه المقاربة، نخشى أن يجد الغرب صعوبة في الاعتراض على حالة «التحرر» هذه، لأنهم سبق وصفقوا لحالة مشابهة لها تماما، لكن فقط علينا أن نذكّرهم أن إسرائيل دخلت لدولة غزة المحررة بالدبابات والقنابل العنقودية وقتلت 13000 فلسطيني، مثالا فقط لما تستطيع إسرائيل فعله لهذه «الدولة».

إسرائيل تعيد حساباتها بعد كل تحول سياسي، وتعيد ترتيب أوراقها السياسية، وبوصلتها دائما هي مصلحتها وتعزيز خياراتها. إسرائيل بدأت بفتح الملفات كافة، لكي تغلقها بشروطها، وعندما لم تستطع، انتهت بإغلاقها جميعا من طرف واحد.

علينا أن لا نغفل أن خطاب نتانياهو، هو خطاب الإجماع الإسرائيلي، لقد رحبت به «كاديما»، و«العمل» وحتى اليسار الصهيوني قبله دون انتقاد جوهري. والرفض الفلسطيني في هذه الحالة لن يكون كاملا إلا بالقضاء على حالة الضعف والذل الفلسطيني المتمثلة في أمرين: أولها غياب الوحدة الفلسطينية، وثانيها إخراج خيار المقاومة من القاموس السياسي الرسمي الفلسطيني. لن يأخذ الإسرائيليون الرفض الفلسطيني لخطاب ـ حل نتانياهو على محمل الجد إلا أذا كان هذا الرفض جزءا من إعادة ترتيب الحالة الفلسطينية العامة.

يتمتع الإسرائيليون الآن، كما دائما عليّ أن أقول، بقيادة «شجاعة» على حد تعبيرهم، صارمة، تعرف «المصلحة» الإسرائيلية وتقف بحزم وراءها. لا يهم إذ ما داست هذه المصلحة على حقوق الشعب الفلسطيني. الحقوق، والتاريخ، والعدل، ليست مفردات في قاموس السياسة الإسرائيلية، ولم تكن كذلك حتى خلال المفاوضات. سياساتهم تنطلق من تمسكهم بتعريفهم الواسع لمصلحتهم، وتعريفهم لمصلحتهم يرتبط بقوة الطرف الفلسطيني، الذي عندما تغيب خياراته، تغيب معها حقوقه.

* نائب في الكنيست الإسرائيلي

عن «التجمع الوطني الديمقراطي »