وفقا لحقائق التاريخ: مجيءُ «حماس» لم يكن في الزمن الصعب

TT

كان على «الأخ» خالد مشعل قبل أن يجْأر بالشكوى ويقول: «جئنا في الوقت الصعب» أن يتذكر أن حركة «حماس» قد جاءت بعد اثنين وعشرين عاما من انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبعد أن حصلت منظمة التحرير على اعتراف معظم دول العالم وغدت عضوا مراقبا في الأمم المتحدة وغدا العلم الفلسطيني يُرفع كل صباح فوق مباني سفارات معترف بها في كل العواصم العربية وفي كل العواصم الإسلامية.

قبل أن تنطلق الثورة الفلسطينية في العام 1965 كانت الهوية الوطنية الفلسطينية غائبة غيابا كاملا وكان الفلسطيني يخشى من أن يعلن انتماءه وكان يعتبر لاجئا مسكينا يستحق الشفقة ولا يحظى بالاحترام حتى على حدود معظم الدول العربية وكان النضال الفلسطيني مجرد تأوهات خافتة ومجرد خطبٍ عرمرمية وكان تحرير فلسطين مبررا لكل الانقلابات العسكرية وكانت المخيمات التي تحولت إلى مصانع رجال وعنوانا للحق الضائع عنوانا للذلِّ والهوان والقهر والقمع والحياة المحزنة البائسة.

إذن إن الذي جاء في الوقت الصعب هي الحركة التي تجشمت صعاب البدايات وهي التي عانت ألم الولادة وهي التي أطلقت الرصاصة الأولى لتنير ظلام الهزيمة التي كانت تجذرت في القلوب والصدور، وهي التي سبَحَتْ ضد التيار، وهي التي اخترقت الحدود المحروسة بالأسلاك الشائكة، وهي التي أسرت أول جندي إسرائيلي قبل أربعة وأربعين عاما وليس قبل ثلاثة أعوام، وهي التي جعلت هوية الفلسطيني النضال والبندقية والرأس المرفوع بعد سنوات الخوف والمسغبة والذل وزوار الأكواخ البائسة في أواخر الليالي المظلمة.

عندما انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة في عام 1965 كان الإحباط الفلسطيني قد بلغ الذروة وكان حتى «الإخوان المسلمون» الذين انطلقت حركة «حماس» من رحمهم يناصبونها العداء ويعتبرونها ظاهرة غريبة وعميلة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وحزب البعث الحاكم في سورية ولاحقا عميلة للاتحاد السوفياتي والشيوعية العالمية وكان التحاق بعض رموزهم بحركة «فتح» في نهايات ستينات القرن الماضي، والعدد هنا لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، بمثابة رفع للعتب وتحاشيا للعزلة عندما كانت البندقية الفدائية عنوان تلك المرحلة وكان لا يعتبر فلسطينيا من لا يحمل هذه البندقية.

لم يكن هناك مشروع إيراني في منتصف ستينات القرن الماضي استدعى المزيد من السخاء واستدعى تحويل بعض التنظيمات المستجدة على العمل الفلسطيني وعلى المقاومة الفلسطينية إلى ما يشبه قلعة «ألمْوت» التي انطلق منها «الحشاشون» بقيادة حسن بن علي الصباح ولذلك فقد انطلق الطلائعيون الذين أطلقوا ثورة عام 1965 بإمكانياتهم الذاتية في البدايات على الأقل وكانت أبواب السجون بانتظار هؤلاء بدل صالات كبار الشخصيات التي استقبلت قادة الحركات الوافدة التي جاءت متأخرة، ولعل ما يمكن أن يقال في هذا المجال إن ياسر عرفات قد سُجن في سجن الرَّمل في لبنان وسجن المزَّة في دمشق، وأن التفرغ للعمل العسكري والسياسي كان بمثابة الانتحار بمواصفات تلك المرحلة المتقدمة.

قال لي صلاح خلف (أبو إياد) رحمه الله إنه في أول زيارة إلى الجزائر ومعه فاروق القدومي (أبو اللطف) حصلا على تبرع مقداره مائة ألف دينار جزائري‘ وإنهما أمضيا ليلة ما قبل رحلة العودة وهما يفكران في أين من الممكن إيداع تلك الأموال «الطائلة» التي كانت لا تساوي إلا ثلاثين ألف دولار، وهذا بالتأكيد لم تعشه التنظيمات التي وفدت على ساحة العمل الفلسطيني متأخرة زهاء ربع القرن، ولم تمر بالظروف التي مرت بها الفصائل التي انطلقت في ستينات القرن الماضي إما قبل حرب يونيو (حزيران) أو بعدها مباشرة.

معظم قادة الثورة، التي انطلقت في الفاتح من عام 1965، بدأوا مقاتلين ينفذون العمليات العسكرية مثلهم مثل غيرهم وخلافا لزعماء التنظيمات التي وفدت إلى ساحة العمل الفلسطيني متأخرة نحو ربع القرن، فإن ياسر عرفات لم يأت إلى طريق الزعامة معبدة بقوة إيران الثورة وحلفائها وبقوة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بل من خلال «القواعد» ومن خلال إصراره على قيادة العمليات الفدائية إلى فلسطين المحتلة منذ عام 1948 عبر هضبة الجولان والضفة الغربية التي بعد احتلالها أصر أبو عمار على الذهاب إليها لإعادة تنظيم المقاومة وإعداد المجموعات القتالية، ولعل ما هو غير معروف أن (أبو عمار) خلال وجوده في الضفة الغربية، كاد أن يقع في أيدي الجنود الإسرائيليين قبل أن يضطر للمغادرة تحت ضغط ضرورة التفرغ السياسي والميداني بعد المستجدات العربية والفلسطينية التي ترتبت على الاحتلال الإسرائيلي.

إن ذلك الزمن هو الزمن الصعب، أما زمن الذين جاءوا إلى ساحة ممهدة بعد اثنين وعشرين عاما من انطلاقة الثورة، فهو الزمن السهل وهو الزمن الخاطئ، فـ«حماس» ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب وهي إذا كان من حقها أن تعتز وتفاخر بمن سقطوا شهداء من قادتها، رحمهم الله، فإنه ليس من حقها أن تحاول جبَّ ما قبلها وتحاول أن تكرس أنها بداية المقاومة وبداية الشهداء، وتنسى أنه سبق شهداءها شهداء أبرارٌ أيضا من بينهم «أبو يوسف النجار» وكمال عدوان وكمال ناصر وغسان كنفاني وسعد صايل وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد.. ولاحقا مصطفى الزبري (أبو علي).

هناك تنظيمات وأحزاب عربية وغير عربية جاءت بدون ضرورة تاريخية، فمثلا كان يرى البعض أنه لم تكن هناك ضرورة لحركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور جورج حبش، ما دام أن الظاهرة الناصرية كانت في أوجها، ومادام أن حزب البعث كان في ذروة انطلاقته وهذا من المؤكد أنه ينطبق على حركة «حماس» التي جاءت إلى ساحة العمل الفلسطيني وهي تزدحم بشتى أشكال وأنواع الفصائل والتنظيمات من التي تدعى الماركسية ـ اللينينية إلى التي تُعتبر امتدادا لأحزاب واتجاهات قومية إلى التي انطلقت وطنية فلسطينية وبقيت وطنية فلسطينية مع خلفية إسلامية لا تزال ترافقها حتى الآن.

وهنا فإن السؤال الذي لا بد من طرحه وإن متأخرا وبعد كل هذه الأعوام، هو: لماذا يا ترى استنكف الإخوان المسلمون (الفلسطينيون على الأقل) عن الانضمام إلى ظاهرة الكفاح المسلح والثورة الفلسطينية لأكثر من عشرين عاما وناصبوها العداء خلال كل هذه الفترة؟ ولماذا اختاروا فترة نهايات عقد ثمانينات القرن الماضي وأعلنوا إنشاء حركة «حماس» مستفيدين من أجواء الانتفاضة الأولى التي جاءت ردّا على خروج منظمة التحرير وقواتها من بيروت أولا ولاحقا من كل الأراضي اللبنانية..؟!.

ثم لماذا يا ترى رفضت «حماس» وعمليا لا تزال ترفض الانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية ولماذا طرحت نفسها وطرحها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وطرحتها إيران بعد أن تبنتها في عام 1995 كبديل لهذه المنظمة وكبديل للمقاومة وبديل للثورة التي انطلقت في عام 1965 وغدت أكثر من عشر تنظيمات..؟!. وأيضا لماذا يا ترى قامت هذه الحركة التي رفضت عملية السلام ووصلت إلى الحكم عبر ثقوب اتفاقيات أوسلو (المشؤومة)! بفصل قطاع غزة عن الضفة ونفذت الانقلاب الذي نفذته بلا أي مبرر مقنع في أسوأ لحظة مرت بها القضية الفلسطينية وأعطت الإسرائيليين الذريعة التي هم بأمس الحاجة إليها للتملص والتهرب من استحقاقات عملية السلام..؟!.

إن هناك أسئلة كثيرة أخرى يطرحها العرب والفلسطينيون على حركة «حماس» وعلى أنفسهم، لكن ورغم أن كل هذه الأسئلة محقة وضروري طرحها الآن، فإن ما سيجيب عليها جميعها هو أن تعود هذه الحركة عن مسارها الخاطئ.. الآن.. الآن وليس غدا فالآن بات تحقيق الحلم الفلسطيني أقرب مما كان عليه في أي فترة سابقة والآن أصبحت الوحدة الفلسطينية حقّا للشعب الفلسطيني على قواه وتنظيماته والآن إما يبادر الذين يدعون أنهم «أمُّ الولد» وأنهم الأحرص على فلسطين وقضية فلسطين، ويتخلون عن حساباتهم التنظيمية الضيقة وارتباطاتهم الخارجية، ويتخذون الخطوة التاريخية المنتظرة وينضمون إلى منظمة التحرير لتحقيق هدف قيام الدولة المستقلة المنشودة وإلا فإن حكم التاريخ سيكون جاهزا وهو لم يرحم ولن يرحم!. ربما أن منظمة التحرير بحاجة إلى إصلاح وإلى إعادة بناء، ولكن هذا لا يأتي من خلال السعي لهدمها والتشكيك في تمثيلها للشعب الفلسطيني، فالولد الصالح لا يلجأ لقتل والده المريض عندما تتردى حالته الصحية لا قتلا رحيما ولا قتلا قاسيا ووحشيّا بل يفعل المستحيل لمعالجته والعمل على شفائه، وهذا هو ما يجب أن تقوم به «حماس» تجاه هذه المنظمة التي رغم كل ما تعانيه من أمراض وأوجاع إلا أنه لا بديل لها في هذه اللحظة التاريخية المصيرية.