الانتخابات الرئاسية الإيرانية ومستقبل إيران

TT

لا ينزل الإيرانيون إلى الشارع كثيرا، بغض النظر عن الاستعراضات والحشود الضخمة والمشهدية التي تعودنا عليها في العقود الثلاثة الأخيرة. لكنهم إذا فعلوا فإنهم يغيرون النظام. وقد فعلوا ذلك مرتين في القرن العشرين، مرة في بدايته (1905 ـ 1907)، ومرة في نهاياته (1978 ـ 1979).

في المرة الأولى، نزلت النخبة للشارع ففرضت على الشاه القاجاري «الدستور» لنظام أرادته أن يحقق ثلاثة أمور: تحديد سلطات الحاكم، وإنجاز الاستقلال والحرية عن التدخلات الأجنبية، وفرض الخضوع لسلطة القانون الواحد. ولأن تلك الأهداف لم تتحقق بعد طول مخاض واضطراب؛ فإن ذاك «اللانظام» سقط عام 1925 لصالح سلطة ملكية مستبدة لكنها ضابطة. وفي المرة الثانية قامت ثورة شعبية هائلة لها هدفان: الخروج من أسر التبعية للإمبريالية الأميركية، وإقامة نظام حكم يستمد مشروعيته من الإسلام.

في الثورة الدستورية الأولى، ما أثارت الحركة هواجس الجوار، إلا من حيث الصراع بين بريطانيا وروسيا على الموقع الاستراتيجي للبلاد. وقد استمر هذا الصراع في عهد الشاه البهلوي بعد العام 1925، ودخلت فيه الولايات المتحدة في الثلاثينيات. وخلع الشاه في العام 1941 للشك في ولائه للحلفاء الذين اجتمعوا بطهران عام 1943. وخرجت روسيا السوفياتية من إيران، ثم بريطانيا. وبقيت الولايات المتحدة حتى واجهتها الثورة الثانية عام 1979.

أما ثورة العام 1979 فقد أثارت تحفظات كبيرة بالخارج أساسا، ثم بالداخل. فقد كانت حركتها الجماهيرية هائلة الاتساع، وطمحت إلى تغيير المنطقة بحسب نموذجها (= تصدير الثورة)، وخاصمت بالطبع الولايات المتحدة. أما في الداخل فقد طمحت الثورة إلى تكسير الفئات الحديثة في المجتمع، ثم إعادة تركيبه. بيد أن أحدا لم يهتم للمجريات الداخلية بإيران بعد الثورة، وما حدث من أحداث ضخمة هناك، بسبب مهاجمة العراق بقيادة صدام حسين للثورة الجديدة؛ في حرب ضروس استمرت ثمانية أعوام. وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك تدور على الجبهات، كان الداخل يُنظَّفُ تماما ليس من المعارضين والمناوئين للنظام؛ بل ومن المترددين والشاكين. ويكفي مثلا على ذلك إقفال جامعة طهران لسنوات من أجل تطهيرها، وما أصاب البهائية والحزب الشيوعي وأول رئيس للجمهورية الإسلامية والفقيه الأول المعين لخلافة الإمام، ومئات الآلاف من كل الفئات. في حين غادر زهاء الثلاثة ملايين البلاد خلال العقدين الأولين من الثورة، وأكثرهم في العقد الأول.

ولا أقصد من وراء ذكر تلك الأحداث أو التذكير بها الحط من «ولاية الفقيه»، التي ما كانت تهم في تعليلاتها وفذلكتها غير الفقهاء والنخبة الدينية الوسطى والصغرى (لأن النخب الدينية الكبرى كانت ضدها)، ثم العوام الذين ارتبطوا بشخص الإمام، ثم بالمرشد الأعلى الهائل الرمزية والصلاحيات. وإنما قصدت من وراء ذكر تلك الأحداث الداخلية التنبيه إلى أن اتجاهات النظام الإيراني الجديد ما اختلفت عن اتجاهات النظم «التقدمية» الشمولية في السياسات الداخلية تجاه الخصوم والأنصار؛ وحتى في خطابه العالي الوتيرة ضد الإمبريالية الأميركية، لكن دونما صداقة مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يتجه وقتها للسقوط. ومَثل عهدُ رئاسة رفسنجاني نوعا من العودة للحياة العادية بعد نهاية الحرب مع العراق، والاتجاه للبناء الداخلي، ومُهادنة الجوار، وإقامة نوع من التوازُن بين السياسة والأمن. لكن حتى في أيام رفسنجاني ظلت الأَولويات خارجية، وظل المظهر الخارجي والنفوذ الخارجي الحقيقي أو المتوهم أساسا ثانيا للشرعية إلى جانب ولاية الفقيه التي صارت لها أيضا مطامح خارجية في استتباع شيعة العالم. وفي وقت كان فيه الصينيون والهنود ونمور شرق آسيا وكوريا الجنوبية، يتجهون لنهوض اقتصادي أسطوري؛ ما كان خطاب الجمهورية الإسلامية ذات الثورة العظيمة، ذا معالم واضحة، لجهة الأَولويات الداخلية، ولا لجهة العلاقات الخارجية، باستثناء إدانة الولايات المتحدة الأميركية وسلوكها تجاه إيران والعالم. وهكذا ظهرت المعالم البارزة للأزمة على مشارف انقضاء الحرب الباردة: عدم تحقق نمو اقتصادي كبير بخلاف ما يحصل في البلدان بعد الحروب، وعلى الرغم من الثروة الكبيرة في النفط والغاز، وقيام سائر العلاقات مع سائر الفئات الاجتماعية على الأمن ومقتضياته ومتطلباته. وكان مجيء السيد محمد خاتمي إلى الرئاسة (1996 ـ 2004) تحت عناوين إصلاحية وبأكثرية كبيرة، دليلا على الإحساس العام بالأزمة في الاقتصاد ومعيشة الناس، وبالأزمة في الحريات، وأخيرا وليس آخرا بالأزمة في العلاقات مع الجوار ومع العالم. وما استطاعت تحركات خاتمي الداخلية (= الديمقراطية الإسلامية)، والخارجية (= حوار الحضارات) أن تُحدث اختراقا إيجابيا في مجال معيشة الناس وحرياتهم، ولا في رؤية العالم لإيران، وتجلت الخيبة من تجربة خاتمي، في خسارة الإصلاحيين بالبرلمان، ثم في خسارة المرشح الإصلاحي للرئاسة بعد خاتمي في مواجهة نجاد؛ وفي الحالتين لعدم إقبال الشباب على الاقتراع قرفا ويأسا.

ولذا فإن ما يحدث الآن مهم وخطير، لأنه انفجار في مسار أزمة متمادية منذ أواخر الثمانينات. وهي الأزمة التي دفعت الفريق الحاكم من حول السيد خامنئي للهروب إلى الأمام بالخارج ثم بالداخل وبالتوازي. في الخارج اندفع النظام الإيراني على الخطوط التي تمددت عليها الولايات المتحدة من أفغانستان وآسيا الوسطى وإلى العراق. وأضاف لذلك إحياء الخلايا النائمة أو المتربصة ضمن الأقليات الشيعية، فقاتل بالواسطة في كل مكان، وحتى في فنزويلا وبوليفيا بحجة معاداة الإمبريالية. وفي الداخل شدد القبضة على كل منافذ التنفس حتى بين الذين لا ينتمون للإصلاحيين بالفعل مثل مير حسين موسوي. وأَهدر بالتفكير والسلوك الأمني بالداخل والخارج خمس سنوات سمان من أسعار البترول والغاز المرتفعة فلم يتحقق نمو مستدام ومعتبر، وضاعت الثروات في تلك الطاحونة الهائلة من الفساد ومناطق النفوذ والمصالح الداخلية والخارجية. حتى لقد بدا في لحظة من اللحظات (خلال حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله على أرض لبنان) أن شرعية النظام الثوري الإيراني كله معلقة على نتائج تلك الحرب، وعلى أن المحرقة النازية ضد اليهود حصلت أو لم تحصل!

إن كل المرشحين لانتخابات الرئاسة هم من النخبة الثورية، ومن قلب النظام. ولو لم يكونوا كذلك لما سمح لهم بالترشح في اللجنة المعروفة. لكن الجمهور الشاب والنسائي على الخصوص، رأى في مير حسين موسوي منفذا للتنفس وسط خمود الاختناق الطويل الأمد. وكنت أحسب أن الفريق الحاكم سيسمح بفسحة تنفس كما فعل في حالة خاتمي. لكن يبدو أن ذاك الفريق من حول المرشد، وبعد سطوة السنوات الأربع الماضية، ما كان مستعدا للقبول بأي تغيير مهما ضؤُل. وهذا يحدث كثيرا في الأنظمة المقفلة مثل نظام شاوشيسكو، ومثل ما فعله السوريون بشأن التمديد للحّود عام 2004. ولذا فالذي أراه أننا على مشارف حركة شعبية زاخرة بإيران تُشبه في زخمها ـ وليس في أهدافها ـ الحركتين الكبيرتين السابقين عامي 1906 و1979. ولو أن النخبة الحاكمة سمحت لموسوي بالفوز لتأجل الغليان أو تردد لسنوات قليلة، كما حدث مع خاتمي الذي لم يستطع أن يغير شيئا. وهكذا فالمنتظر أن تتنامى تلك الحركة، وأن يواجهها الفريق الحاكم بالحرس الثوري وبقوات الأمن. والمنتظر في خضم ذلك أن تُظِل الثورة المتجمعة على ما يُشبه فوران العام 1906، وليس على شبيه فوران العام 1979. ولست أدري إذا كان المرشد يستطيع أن يفعل شيئا، لأن الفريق المتنفذ من حوله لن يتيح له ذلك. وهذا إلا إذا كان قد حسم أمره واعتزم المُضي إلى النهاية في مواجهة رفسنجاني المتربص، وكثيرين ممن لا نعرفُهم ولا يُذكرون في الإعلام، ممن تضرروا في العقد الماضي.

في ثورة العام 1906 كان هدف النخبة محددا وهو الحصول على الدستور. أما اضطرابات العام 1978، والتي شارك فيها يساريون كثيرون، فما بدت واضحة الأهداف، باستثناء العداء للشاه ونظام حكمه. ثم حصلت الاستدارة الجماهيرية الكبيرة باتجاه المؤسسة الدينية وزعامة الإمام الخميني. وهذا التحول الذي بدأ قبل قرابة الأسبوع بإيران هدفه حتى الآن الاحتجاج على إسقاط موسوي لصالح نجاد. لكنه فيما يبدو لن يقتصر على ذلك، وقد ينقلب باتجاه المرشد ونظام ولاية الفقيه. بيد أن الأمر حتى الآن لا يُشعر بأن النظام في خطر. إنما الفريق الحاكم باسم المرشد ومن وراء نجاد من رجال الدين والأمن وكبار المترسملين إن أَصر على استخدام الأدوات الأمنية والعامة الشعبية؛ فقد يؤدي الانقسام والعنف إلى تصدع النظام. وكما كانت لثورة العام 1979 الكبيرة آثارها البارزة على إيران وعلى المنطقة، فستكون للتطورات الإيرانية الجديدة آثارها على العراق وعلينا، وربما على السياسات الأميركية بالمنطقة أيضا.

لا يخرج الجمهور الإيراني طوعا وبتلقائية إلى الشارع. لكنه إن خرج فسوف يغير النظام: فهل خرج بالفعل؟ ومن يقوده؟ وإلى أين؟ إنها أسئلة كبيرة سوف تجيب عليها تطورات الأيام أو الأسابيع القادمة.