الثورة تأكل نفسها في إيران

TT

الثورات كالنيران تأكل نفسها عندما لا تجد ما تأكله، وهو ما يحدث حتما عندما تعجز الثورة عن التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، أي إلى الحكم المدني بكل مفرداته المعروفة في المجتمع المدني. وشرعية الثورة تستند إلى الغضب العام في الشارع وعجز السلطة عن إزالته أو مواجهته والسيطرة عليه، وهذا هو ما حدث بالضبط في الأيام الأخيرة من حكم الشاه في إيران. والغضب ليس نباتا بريا ينمو في الأرض من تلقاء نفسه بغير بذور، بل هو نتاج مؤكد لسنوات طويلة من تجاهل السلطة لحقوق الناس وحرمانها من حقها الطبيعي في ثروات بلدها وصنع حاضرها على النحو الذي تقدر عليه وتستحقه، مع اللجوء لصنع بدائل من الأعداء الخارجيين تصلح أهدافا توجه الناس يأسها وغضبها إليها، وتخفف توترها بكراهيتها والخوف منها، وذلك في عملية خداع سياسية مستمرة الهدف منها هو عدم التحول إلى الشرعية الدستورية عجزا أو جهلا أو بدافع من رغبة نرجسية عارمة في الاستمتاع بالهيمنة على البشر.

والعدوان الخارجي يطيل أمد الثورة في الداخل بشرعيتها الخام، أي تلك المبنية على الغضب الذي أدى إلى قيامها، كما يؤجل انفجار الغضب في الشارع وإن كان لا يلغيه أو يمنع حدوثه، حدث ذلك في إيران عندما هجمت الجيوش العراقية عليها بقيادة صدام حسين تماما كما حدث في الاتحاد السوفيتي عندما هجمت عليه الجيوش الألمانية في الحرب العالمية الثانية في حكم الرايخ الثالث في عهد أدولف هتلر. لو أن إيران الخميني لم تخض حربا طويلة ضد العراق لكنا قد شاهدنا ما يحدث هناك الآن منذ عشرة أعوام على الأقل. لم تكن نتيجة الانتخابات الرئاسية في إيران هي مفجر الثورة في الشارع، بل كانت النقطة التي فاضت الكأس عندها أو كانت القشة التي لم يتحملها البعير فقصمت ظهره، وفي كل الأحوال من المحتم ـ إذا لم أكن مخطئا في فهمي للأحداث ـ أن تؤدي إلى تغيير في أساسات الحكم وأساسياته يعطي للشعب الإيراني قدرا يستحقه من الشرعية الدستورية وتجعله قادرا من خلال مؤسساته على مراقبة إيراداته ومصروفاته لضمان عدم تسربها إلى جماعات سياسية مغامرة خارج البلاد، إنها بداية صحوة لم يعد ينفع معها إخافة الناس من الشيطان الأعظم أو تغذيتهم بأوهام إزالة إسرائيل. ولو استطاعت الحكومة الحالية برئاسة نجاد أن تقبض على الإمبريالية العالمية وأن تأتي بها مكبلة بالحديد هي وكل قوى الاستكبار وعرضتهم في ميدان عام في طهران، لقالت الناس: ولكن ذلك كله لا يضمن لنا سكنا وعملا ولا تعليما راقيا لأطفالنا ولا يحسن حاضرنا ولا يؤمن لنا مستقبلا أفضل.

من المستحيل العيش في عصر بمفردات عصور سابقة، لا معنى الآن لخوض حرب ضد الشيطان الأعظم إلا في حالة واحدة فقط هي أن تكون أنت ملاكا أعظم بغير أن تملك دليلا يثبت ذلك، أو أن تكون تابعا للاتحاد السوفيتي الذي لم يعد له وجود. الواقع أن كل المعارك التي خاضتها حكومة أحمدي نجاد تابعة لعصور لم يعد لها وجود. لقد كان من السهل على كل من عاش أو عاشر نظاما سلطويا، أن يفهم على نحو صحيح جملة المرشد العام في إيران قبل الانتخابات التي قال فيها محذرا الناخبين: احترسوا من هؤلاء الذين يتملقون الغرب.

هذا أمر صريح وواضح من أعلى قيادة في إيران لكل المؤسسات والأجهزة السياسية والإدارية بأن ينجح السيد نجاد في الانتخابات بوصفه الشخص الوحيد الذي لا يتملق أمريكا أو يغازلها، وكأن الانتخابات مجرد استفتاء على علاقة إيران بالغرب. هكذا دارت ماكينات السلطة بكل قوتها لصنع هذه النتيجة المفاجئة التي أعلنتها وكالة أنباء إيران الرسمية بعد إغلاق لجان الانتخابات بدقائق بغير اعتبار لعقول الناس ولا عواطفها، مفجرة غضبا لا حدود له في الشارع الإيراني.

وأجهزة الدولة السلطوية قادرة دائما على قمع أية حركة في الشارع إلا في حالة واحدة هي أن تكون طاقة الغضب قادرة على كسر حاجز اليأس والخوف عند الناس، وهي في نشاطها وفعاليتها سترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته قيادتها السياسية من قبل، وهو اللجوء لمفردات عصور لم يعد لها وجود، وهو القتل العشوائي وكيل الاتهامات العشوائية، وهي في ذلك لا تدافع عن النظام فقط بل عن أنفسهم كأشخاص أصحاب مناصب كانت تحتم عليهم القمع، قمع أهلهم، هم على وعي بأن ما سيحدث لهم هو ذاته ما فعلوه بالآخرين من قبل.

غير أن هناك عدوا جديدا لم يتنبهوا لوجوده من قبل، وهو تكنولوجيا العصر في الاتصال، لقد منعوا وكالات الأنباء من العمل ونقل ما يحدث داخل شوارع إيران إلى العالم، وكأنهم يعيشون في ستينات القرن الماضي، هذا عصر حقوق الإنسان الفرد وحقه بل وقدرته على الحصول على المعلومات، لا أحد الآن قادر على إخفاء شيء لا صلة له بأسرار الدولة، والشارع في العالم كله لم يعد من أسرار الدولة، الحدود موجودة على الأرض فقط، وحرس الحدود قادرون فقط على منع الناس والبضائع من الدخول والخروج، أما المعلومات فكل من يحمل جهاز تليفون محمول قادر على التحول إلى وكالة أنباء عالمية حرة بغير ترخيص وبغير الحصول على موافقة أحد.. الحكومة الإيرانية دخلت في حرب مع الأقمار الاصطناعية وهي حرب خاسرة بالتأكيد.