فلان وعلاّن سواء في الاعتقاد والصلاحية.. فعلامَ الضجة؟!

TT

لو فاز في الانتخابات الرئاسية الإيرانية: مهدي كروبي، أو محسن رضائي، أو مير موسوي، هل «سيقع» تغير جوهري في النظام الاجتماعي والسياسي في إيران؟ هل كانت الاستراتيجية الثابتة ـ المتفق عليها على مستوى النخب المؤمنة بالنظام ـ هل كانت هذه الاستراتيجية ستتبدل؟ (هذا مضمون سؤال طُرح على كاتب هذه السطور قبل ظهور نتائج الانتخابات الإيرانية، ولذا صدّرت صيغة السؤال بـ«س» الاستقبال: هل «سيقع»)، وكان الجواب: لا.. لا يُتوقع حدوث شيء جوهري وكبير في بنية النظام الإيراني وتوجهاته الرئيسة، وأهدافه الوطنية أو القومية.

ولقد عللنا وأيّدنا «لا» هذه بمنظومة أسانيد ووقائع، من أهمها:

1 ـ إن المرشحين للرئاسة الإيرانية جميعا «مؤمنون بولاية الفقيه»، فبموجب معايير النظام الإيراني «لا يجوز» أن يترشح للرئاسة ـ أو يُقبل ترشيحه ـ إلا موقن بولاية الفقيه، بمعنى أنه سيكون «مؤتمنا» على حراسة نظام ولاية الفقيه حين يتولى مقاليد رئاسة الجمهورية «ويقسم على ذلك».. وبناء على هذا: يتساوى كروبي ورضائي وموسوي مع أحمدي نجاد في هذا الاعتقاد السياسي بولاية الفقيه.

2 ـ هناك قضايا وأهداف رئيسة هي موضع إجماع من النخبة السياسية الإيرانية المؤهلة لأن تحكم في إيران.. وهذه القضايا والأهداف الرئيسة هي: استمرار نظام ولاية الفقيه ـ كما سبقت الإشارة ـ .. والبرنامج النووي.. ودولة إيران العظمى.. والحرص على دور إقليمي ودولي فاعل ومؤثر لهذه الدولة العظمى.

3 ـ إن صلاحيات رئيس الجمهورية ـ أيا كان اسمه ـ مضغوطة ومحكومة ومقيدة ـ أشد ما تكون القيود ـ بصلاحيات «الولي الفقيه» أو المرشد، فصلاحيات الولي الفقيه من السعة والتعدد والهيمنة بدرجة تكاد تبتلع كل صلاحية أخرى في النظام الإيراني.

ويلزم ـ هنا ـ تسجيل سطور في مفهوم ولاية الفقيه: كما حددها الخميني في كتابه «الحكومة الإسلامية»، وكما رسمها ـ بالتالي ـ الدستور الإيراني:

أ ـ يقول الخميني: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا».

ب ـ ويقول: «إن قوامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أمير المؤمنين لا تختلف عن قوامة أي فقيه عادل في زمن الغيبة».

ج ـ وتنص المادة «5» من الدستور الإيراني على أن «تكون ولاية الأمر والأمة في غيبة الإمام المهدي عجل الله (تعالى) فرَجه في جمهورية إيران الإسلامية للفقيه العادل التقي العارف بالعصر الشجاع المدير والمدبر الذي تعرفه أكثرية الجماهير وتتقبل قيادته».

وفي ضوء: وُضعت في يد الولي الفقيه أو المرشد مهام وصلاحيات هائلة جدا منها ـ على سبيل المثال ـ: تقرير السياسات العامة للدولة بعد التشاور حولها، أي أن قرارها وتقريرها في يده في نهاية الأمر.. ومراقبة تنفيذ هذه السياسات.. وتعيين مجلس الأوصياء، ورئيس الهيئة القضائية، ورئاسة القوات المسلحة، وتعيين كبار قادتها بمن فيهم رئيس الأركان.. وإعلان الحرب والسلام، إلى غير ذلك من المهام والصلاحيات المتعددة.

ولما كان رئيس الجمهورية ـ في ظل هذا الوضع ـ يبدو وكأنه «موظف كبير» لدى المرشد، فإن منصب رئيس الجمهورية ليس مؤهلا ـ لا دستوريا ولا فعليا ـ لأن يُحدِث تغييرات جذرية أو أساسية في الدولة الإيرانية، مهما كان اسمه ولونه ومهما كانت رغبته في التغيير والإصلاح (وهذا ما يفسر أن محمد خاتمي تولى رئاسة الجمهورية لمدة ثماني سنوات ولم يستطع أن يفعل شيئا يُذكر(.

وهناك من يفسر عجزه: بوضع العراقيل في طريقه.. وبَدَهِيٌّ أن العراقيل لا تُنفى من حيث أنها واقع حقيقي، بيد أنه تفسير يعزز التفسير الآنف، أي يعزز أن «صلاحياته المحدودة جدا» قد هيأت أوسع الفرص لكي تفعل العراقيل فعلها.

ومهما يكن من أمر، فإن هناك نظريتين لتفسير ما يجري في إيران بعد الانتخابات ـ وبسببها ـ:

1 ـ النظرية الأولى: أن ما يجري في إيران بعد الانتخابات هو «البديل السياسي» لضربة عسكرية للنظام الإيراني، وهي ضربة طال الحديث عنها في الظروف القريبة الماضية، بل هناك من رسم سيناريوهاتها التفصيلية، وعلى نحو توقع الناس فيه هذه الضربة، في أي لحظة، لشدة الدقّ والإلحاح على طبول الحرب.

وإذا كانت هناك «إرادة دولية» لتغيير النظام الإيراني لأسباب عديدة، من أهمها «برنامجه النووي»، فإنه عندما تعذر التغيير بالضرب والغزو (كما حدث لنظام صدام حسين)، فالبديل الممكن في هذه الحالة هو «زلزال سياسي ضخم» يرجّ المجتمع الإيراني، ويضعف ـ إلى درجة الإنهاك ـ مناعته السياسية والفكرية والأمنية.

ومن القرائن التي يقوّي بها أصحاب هذه النظرية «نظريتهم»: أن ما يجري قد تجاوز مجرد الاحتجاج على نتائج الانتخابات: تجاوز ذلك إلى المناداة بتعديلات في بنية النظام، وشبكة صلاحيات قيادته مثلا.

2 ـ النظرية الثانية لتفسير ما يجري في إيران هي: أن ما يجري قد يكون في مصلحة النظام القائم!

كيف؟

في المجتمع الإيراني نفسه نزوع قوي إلى التغيير «والانقسام الحاصل حول نتائج الانتخابات ذو علاقة وُثْقى باتجاهات التغيير».. وهو تغيير له عوامله الثقافية والاقتصادية والاجتماعية المتعددة والمتراكمة والمتزايدة.

يُضم إلى ذلك: الرغبة الدولية في التغيير في إيران.

يضاف إلى ذلك ـ أيضا ـ إحساس سدنة النظام بالنزوع العام إلى التغيير.

بناء على هذا، تقول هذه النظرية: إن النظام الإيراني ـ بقيادة خامنئي ونجاد ـ يريد تلبية هذه الاتجاهات الرامية إلى التغيير، ولذا سينتهز فرصة ما يجري للقيام بتغييرات وتبديلات معينة بهدف:

أ ـ احتواء المطالب بالتغيير.

ب ـ تطويل عمر النظام على يده هو.

ج ـ تجميل وجهه الخارجي: الإقليمي والدولي.

د ـ أن يخرج النظام، بطريقة تلقائية ـ تبدو وكأنها تلقائية ـ من «حرج» الأدبيات السياسية التي حشر نفسه فيها، وكلّفته الكثير المرهق: أدبيات مثل «أمريكا هي العدو»!

ومن المؤشرات التي يصطحبها من يقول بهذه النظرية:

1 ـ منذ قليل اعتقلت السلطات الإيرانية صحافية أمريكية من أصل إيراني.. اعتُقلت ثم صدر حكم قضائي بسجنها بتهمة التجسس.. ثم على عجل حصل استئناف للحكم تحررت بموجبه من السجن.. ومما يلفت النظر ـ ها هنا ـ الحيثية الأهم في حكم البراءة، فقد قالت المحكمة: «الولايات المتحدة الأمريكية ليست دولة معادية لإيران»!!

وهذا ـ في حقيقة الأمر ـ «رأي سياسي»، لا حكم قضائي: اقتضاه الخروج من حرج الأدبيات السياسية التي جرّت على إيران عداوات حادة ومرهقة.. والواقعة تشير ـ من قبل ومن بعد ـ إلى إرادة التغيير.

2 ـ قال جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي: «إن الولايات المتحدة لا تريد تغيير النظام الإيراني، وإنما ترغب في تغيير سياساته لكي يتسنى لها التعامل الجاد والحوار البنّاء معه. فتجربتنا في تغيير النظام العراقي بالقوة ثبت أنها لم تكن في مصلحة الولايات المتحدة».. وهذه لغة تومئ ـ أيضا ـ إلى التغيير في نطاق النظام.

ثم طرأ سؤال عاجل: وماذا بعد خطبة خامنئي أمس؟.. في الخطبة ـ مثلا ـ استمالة رمز كبير ومهم في النظام وهو رافسنجاني وذلك بالثناء عليه وتبرئته مما اتهمه به نجاد «حمقا وتهورا». وقد يتكلم رافسنجاني، وقد يكون لكلامه تأثير في الأوضاع، وإلا فإن الصراع سيستمر ـ بهذه الصورة أو تلك .. ومما ينبغي التنبه له ـ هنا ـ أن الصراع أو التنافس إذا استمر فسيكون في الإطار نفسه لأن المرشحين جميعا يجهرون بأنهم تلاميذ خميني، وأبناء الثورة وجنودها. ومن قبل ومن بعد، يبدو أن إيران في «مرحلة تحول» مثير!!