ما لا تنقله الفضائيات

TT

لجنة العلاقات الخارجية لمجلس العموم البريطاني مكونة من جميع الأحزاب، حكومة ومعارضة؛ رئيسها مايكل غيبس، عضو بارز في حزب الحكومة لكنه كان صارما قاسيا في استجوابه، وبقية أعضاء اللجنة، لوزير الخارجية ديفيد ميلليباند عندما مثل أمامهم يوم الثلاثاء.

الجلسة كانت علنية مفتوحة لعموم الناس (البرلمان اسمه مجلس العموم)؛ أما الجلسات الخاصة فتكون وراء أبواب مغلقة إما لحساسية المعلومات للأمن القومي؛ أو لطمأنة الشهود ليتحدثوا بصراحة لا توفرها الجلسات العلنية. إغلاق الجلسة لا يمنع اللجنة من نشر تقريرها النهائي المستخلص من استجواب الشهود ليدخل ضمن أرشيف البرلمان هانزارد Hansard وهو متاح لمن يريد الاطلاع عليه في أي وقت.

وزير الخارجية ميلليباند هو المرشح المفضل للجناح البليري (أنصار رئيس الوزراء السابق توني بلير) لتولي زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الحكومة؛ ورغم ذلك لم يدخل في حسابات رئيس اللجنة العمالي احتمال إضاعة فرص اختياره لمناصب كبيرة إذا استمر في إحراج الرجل الذي قد يكون رئيس الحكومة بعد أسابيع قليلة مضحيا بمصلحة شخصية من أجل الصالح العام.

اللجنة استدعت الوزير لاستجوابه في اتهامات وشكاوى (من غير بريطانيين) للحكومة بعدم التدخل لمنع انتهاك حقوقهم الإنسانية.

في الأسبوع الماضي شهد ممثلا «منظمة العفو الدولية»، و«هيومان رايتس واتش» أمام اللجنة، بتفاصيل اتهامات وجهها معتقلون في غوانتانامو إلى حكومة بريطانيا بسماحها لطائرات تابعة للـ«سي آي إيه» بالهبوط في قاعدة ديغوغارسيا، الواقعة في أراضي المحيط الهندي البريطانية، قبل نقلهم إلى «أربعة بلدان عربية وباكستان حيث تعرضوا للتعذيب» حسب شهادات الممثلين.

القانون البريطاني واضح في تحريم تعريض المتهمين للتعذيب من أي نوع، كما لا تأخذ المحاكم الانجليزية باعترافات المتهم أثناء التحقيق كدليل، وإنما كمصدر للحصول على أدلة مادية؛ ولهذا استدعت اللجنة وزير الخارجية لمواجهته باتهامات معتقلي غوانتانامو.

مراقبة آليات بريطانيا في الحفاظ على حقوق الإنسان على الأراضي التابعة للتاج، والعمل على تطبيقها بالضغط على حكومات في مناطق النفوذ البريطاني (كالعراق وأفغانستان والبلدان التي تتلقى دعما ماليا من لندن)، هو أهم ملف تتابعه اللجنة في الدورة البرلمانية 2008/2009 إلى جانب ملف الأمن العالمي (متضمنا سلام الشرق الأوسط).

زارت اللجنة العراق وأفغانستان والضفة الغربية وإسرائيل، في شهر أبريل، لتقصي الحقائق لاستكمال الملفين اللذين ربطت بينهما.

معلومات زيارة أفغانستان أدت إلى مواجهة طويلة بين السير جون ستانلي (من المحافظين) وميلليباند حول انتهاك حقوق المرأة بتصديق الرئيس حميد قرضائي على قانون خاص بالشيعة يجعل من الزوجة شبه جارية لزوجها في تناقض واضح مع الدستور الأفغاني الذي يساوي بين الجنسين. استمر السير ستانلي في استجواب الوزير لمعرفة الجهود التي بذلها ديبلوماسيوه مع قرضائي لعدم التصديق على قانون غير إنساني في وقت يبذل فيه جنود بريطانيا أرواحهم لحماية النظام، وبالتالي يمكن الضغط عليه لتحسين وضع نصف الشعب الأفغاني.

ولم تترك اللجنة للوزير مخرجا سوى تعهده بالضغط على كابول لإشراك فعلي للنساء في لجان صياغة القوانين.

تعرض ميلليباند لضغوط أخرى للإجابة على اتهامات الضلوع في نقل معتقلين من غوانتانامو إلى بلدان عربية وباكستان ضمن ما عرف بـ extraordinary rendition وهو تعبير يصعب فهمه حتى على الانجليز لأن الكلمة الثانية تعني عرضا موسيقيا، أو تفسيرا متحركا لأحداث، والتركيبة تضيف تعبير «فوق العادة» إلى التفسير rendition بمعنى ترجمة مفهوم متحرك من لغة إلى أخرى. اختراع لفظي من الـ«سي آي إيه» لعملية نقل المتهم، عن طريق بلد ثالث، إلى بلد يضع فيه رجال الأمن أنفسهم فوق القانون، ويعذبون المتهم للحصول على معلومات تتسلمها الـ«سي آي إيه». ويعاد المتهم إلى غوانتانامو بينما يقسم رجال الـ«سي آي إيه» أمام لجان التحقيق في الكونغرس أنهم لم يسيئوا معاملة المتهم الذي لم يتعرض لأي إهانة على أرض أمريكية.

تشددت اللجنة فوضعت وزير الخارجية أمام مسؤوليته قائلين إن السماح لطائرة تنقل المتهم بالهبوط في أراضي قاعدة بريطانية يعتبر مشاركة في انتهاك حقوق المتهم وهي جريمة في القانون البريطاني.

كررت اللجنة السؤال على وزير يراوغ في الإجابة ليعترف بتلقيه تأكيدا من الأمريكيين بعدم وجود أي معتقل في الطائرات التي هبطت في قاعدة ديغوغارسيا، كما أن الأمريكيين لم يخبروا لندن مسبقا.

حاصر أعضاء اللجنة الوزير بوابل من الأسئلة لربط هذا الأمر بالأمن القومي، خاصة بقول النائب العمالي ايريك ايلزيلي «من المستحيل أن يسمح الأمريكيون باستخدام سلاح الجو الملكي قواعدهم دون إذن مسبق بمعرفة ما تحمله الطائرات البريطانية» فلماذا لا تعامل بريطانيا الأمريكيين بالمثل وتطلب معرفة ما تحمله أو من تنقله طائراتها عند استخدام قواعد بريطانية؟

وما أثار شكوك اللجنة، وزاد من حرج الوزير، مسألة «ضياع السجلات خطأ» التي دونت فيها حركة الطيران في قاعدة ديغوغارسيا ما بين 2005 و2008؛ ومن ثم يستحيل معرفة بالضبط ما كانت تحمله الطائرات، كما أنه في الفترة التي لم يكن قد تولى فيها الوزارة.

وسواء كان ضياع السجلات أو هلاكها عن إهمال أو عن قصد، فإن الواضح مسألتان، أولها أن الوزير مسؤول بحكم المنصب عما يحدث في الوزارة طوال فترة بقاء حزبه في الحكم بصرف النظر عن التواريخ، وأيضا عن حماية الأمن القومي للبلاد.

وثانيها تفسيرها بأن حماية حقوق الإنسان وطاعة القانون لا تنفصلان عن الأمن القومي للبلاد، بعكس المقولة الخاطئة التي تروجها الأجهزة الأمنية من ضرورة التضحية بحقوق الإنسان أحيانا لحماية الأمن القومي، فالأجهزة الأمنية كثيرا ما ترى القوانين والضوابط عائقا لعملها.

الملاحظ أن غياب الصحفيين العرب التام عن حضور مثل هذه الجلسات (التي سيعود المؤرخون عبر العصور إلى محاضرها لكتابة التاريخ) حرم مستهلكي الإعلام العرب من معلومات في غاية الأهمية خاصة لتصحيح فكرة خاطئة تكونت في الأذهان عن دور بريطانيا تجاه قضاياهم.

فأذهان المتفرج والقراء العرب تراكمت فيها آثار الفضائيات، وما قرأوه في الصحف من معلومات ناقصة وأحداث انتقائية وغاب عنهم (عن قصد أو بتكاسل الصحفيين العرب) بقية ما غطس من جبل الثلج المعلوماتي.

ربما هناك انتهاكات أفراد من الأمن أو الجيش للقانون أو لحقوق الإنسان، لكن الجهود المبذولة برلمانيا وقضائيا لنصرة الضعيف أو من وقع عليه الظلم، هائلة وضخمة وعلنية ويتحمل دافع الضرائب الملايين من أجل دعم حقوق الإنسان، وياليت الزملاء من الصحفيين العرب يتابعونها ليقدموا بعضا من بقية الحقيقة الغائبة.