إيران بين الثورة والإصلاح

TT

أكثر من ثلاثين عاما مرت على انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، وهي ليست بالفترة البسيطة أو القصيرة، خاصة في ظل عالم سريع التحول والتغير مثل عالم اليوم. لا زلت أذكر بوضوح، وكأن الأمر كان بالأمس القريب، تلك المظاهرات التي ضاقت بها شوارع طهران والمدن الكبرى في إيران، ومنظر الشاه وهو يغادر طهران لآخر مرة في السادس عشر من يناير عام 1979، وضباطه الكبار ينحنون على يده مقبلين، ورغم ذلك كان الذل والانكسار واضحا على قسمات وجهه، ومنظر الخميني وهو يهبط من طائرة «إير فرانس» قادما من منفاه الباريسي في الأول من فبراير عام 1979، الذي لجأ إليه بعد أن طرده صدام حسين من النجف بناء على طلب من الشاه محمد رضا بهلوي، وكان وجهه جامدا لا يحمل أي تعبير وهو يحيي الجماهير المحتشدة في المطار وفي شوارع طهران، وكانت سلطته تكمن في كاريزميتيه الطاغية ليس إلا. كل شيء بدا كالحلم في تلك الأيام، فمن كان يصدق أن نظاما كان يعتبر الأقوى في منطقة الشرق الأوسط، ومدعوما بجيش قوي وحديث، وقوات أمن مدربة ومجهزة بكل أدوات القمع الحديثة، وجهاز مخابرات (السافاك) الذي يعد واحدا من أكفأ أجهزة المخابرات في العالم، من يصدق أن مثل هذا النظام ينهار فجأة نتيجة مظاهرات مجموعات من العمال والطلبة والفلاحين والعاطلين عن العمل، وتحت تأثير كلمات شيخ عجوز في المنفى، فعلت كلماته المنقولة عبر أشرطة الكاسيت فعل السحر في جماهير غاضبة، لم يكن ينقصها إلا قائد كاريزمي يوجهها حيث يريد، وإيديولوجيا بسيطة تلهب حماستها.

كانت أسباب الثورة متعددة، منها الاحتجاج على الفقر المدقع في بلد نفطي غني الموارد لا يبخل بالبلايين في الإنفاق على السلاح والمظاهر الزائفة، مثل الاحتفال بمرور 2500 سنة على تأسيس الإمبراطورية الفارسية عام 1971، فيما يعاني غالبية الشعب من غائلة الجوع وأنياب الفاقة، وبعضها الآخر احتجاجا على محاولات «تغريب» الدولة الإيرانية أو إعادتها إلى جذورها القومية ما قبل الإسلام، وبعضها احتجاجا على الفساد السياسي والمالي الذي بلغ مداه في الأسرة البهلوية الحاكمة والمقربين منها، والبعض الآخر انقيادا لنفسية الجماهير، كما سماها الفرنسي غوستاف لوبون. ولكن، وفي كل الأحوال، كانت الثورة الإيرانية، ومن قبلها ثورات جماهيرية عديدة (الثورة الفرنسية والروسية مثلا)، ومن بعدها دول أخرى (الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية مثلا)، درسا كبيرا لإنسانية لا تفقه الدروس ولا تتعلم من التجارب والعثرات.

كانت درسا في أن القوة المادية وحدها لا تكفي لحماية أي نظام أو لبناء الأوطان، ما لم يترافق ذلك مع شيء من عدالة، ولا نقول مطلق العدالة، وشيء من حرية، ولا نقول مطلق الحرية، والكثير من احترام كرامة الإنسان التي تمرغت في أقبية السافاك والسرية، وخلف أسوار سجون الأمن ومعتقلاته. سقط النظام الشاهنشاهي، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران، بعد أن صفت حلفاءها من الليبراليين واليساريين والمعتدلين من الإسلاميين، رافعة شعار العدل والمساواة وكرامة الإنسان، والإعلان عن ثورة المستضعفين ضد قوى الاستكبار في الداخل والخارج معا. مات الشاهنشاه (ملك الملوك) محمد رضا بهلوي أريا مهر في مصر، في السابع والعشرين من يوليو عام 1980 قهرا وكمدا، بعد سنة ونصف من التجوال في أنحاء العالم بحثا عن ملاذ آمن، ولكن الكل رفضوه، بما فيهم حليفته الولايات المتحدة، وبنما التي لا تكاد تظهر على الخريطة، وكأنه جرذ يحمل في دمائه فيروس طاعون قاتل، رغم كل البلايين من الدولارات التي أودعها بنوك العالم، إذ أنها لم تفعل له شيئا في النهاية. مات «ملك الملوك» وهو يرى تشتت أسرته في أرجاء المعمورة، وانهيار الدولة القومية الحديثة التي كان يمني النفس بأن تكون بصمته في التاريخ، ولكن كل ذلك ذهب مع الريح. ومن سخرية الأقدار أنه وقبل الثورة بعام واحد أو أقل، ظهر الشاه في برنامج «ستون دقيقة» التلفزيوني الأميركي، وسأله المقدم، وأظنه كان مايكل والاس، إن كان يتوقع استمرار النظام الملكي في إيران، فكانت إجابة الشاه مختصرة بالقول: «بالطبع»، قال ذلك وقد ملأه الزهو والكبرياء، وكأنه طاووس أصفهاني ناشر قوس قزح بريشه الملون، في الوقت ذاته الذي سئل فيه الملك حسين السؤال نفسه، فكانت إجابته بالقول إنه لا يدري، فكل شيء بيد علام الغيوب.

واليوم، وبعد ثلاثين عاما من الثورة، ها هي ملامح ثورة جديدة تلوح في الأفق، وإن لم تصل إلى مرحلة الثورة حقيقة. أبناء ثوار 1979 يعودون إلى الشوارع من جديد، مطالبين بذات مطالب آبائهم في العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وإن كانت مضامين اليوم غير مضامين الأمس، رغم أن القيم هي ذاتها، فهل إيران مقبلة على ثورة جماهيرية جديدة، بعد ثلاثين عاما من ثورتها عام 1979؟ لا أظن ذلك، فالثورة عام 1979 كانت موجهة للنظام السياسي الشاهنشاهي بأسره، أما تحركات اليوم فهي مضادة لنجاد، ومن يقف وراءه من ملالي محافظين وأجهزة قمع لا تختلف عن تلك التي كانت أيام الشاه. من ناحية أخرى، فإن قادة ثورة 1979، من إسلاميين وغيرهم، لم يكونوا دعاة إصلاح من داخل النظام بقدر ما كانوا ثوارا على كل النظام، وهو ليس حال مظاهرات اليوم في إيران، والتي ينتمي قادتها إلى ذات النظام، ولا يتمتعون بتلك الكاريزما التي كانت للخميني أيام ثورة 79. فالمطلب اليوم ليس ثورة شاملة بقدر ما هو إصلاح نظام تجاوزه الزمن، أو أنه لا يزال يعيش في ظل ذكريات ثورة لم تعد شعاراتها وأهدافها بذات الجاذبية الجماهيرية عند قيامها، خاصة بالنسبة لفئة الشباب الإيراني الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة. فالشباب الإيراني اليوم يشكل أكثر من ثلثي السكان البالغ عددهم سبعين مليونا، ويرفع البعض هذه النسبة إلى 70 في المائة من مجمل السكان. هؤلاء الشباب لم تعد تأسرهم شعارات آبائهم في ثورة 79، وليس لكاريزما الخميني أي تأثير عليهم، ومطالبهم ذات طبيعة براغماتية أكثر من كونها إيديولوجية.

ثلاثون عاما مرت على ثورة 1979، تحولت خلالها الثورة إلى دولة ومؤسسات تحكم قبضتها على البلاد، ولكن المشكلة، ورغم إيجابيات كثيرة حققتها الثورة ـ الدولة في المجتمع الإيراني، إلا أن الصورة العامة لم تتغير كثيرا عن حقبة الشاه، وربما كانت أسوأ. فإيران اليوم، وبعد ثلاثين عاما من سقوط الشاه، ما زالت دولة فقيرة رغم مداخيل النفط الهائلة، التي تذهب للإنفاق العسكري وتخصيب اليورانيوم، ودعم الدول والمنظمات الإقليمية الحليفة، وكل ذلك على حساب شعب، ونكرر معظمه من الشباب، لا يزال في معظمه فقيرا وعاطلا عن العمل، بحيث وصلت نسبة التضخم والبطالة في إيران اليوم إلى أكثر من 18 في المائة من إجمالي قوة العمل، التي يشكل الشباب أكثريتها المطلقة. وفي مجال حقوق الإنسان، لا يبدو أن هنالك فرقا كبيرا بين أجهزة الشاه الأمنية، من سافاك وجيش وقوى أمن، وبين أجهزة دولة الثورة، من حرس ثوري وباسيج وجيش وغيرها من قوى الأمن، ودور الجميع في سحق الإنسان وحريته، وقمع كل ما يراه النظام، في زمن الشاه وزمن الثورة، غير متفق مع «الخط القويم» الذي تحدده الدولة، ولا أحد غير الدولة. وكان الشاه يريد إقامة قوة إقليمية تهيمن على كل المنطقة، ولذلك كان إنفاقه غير المحدود على أجود أنواع السلاح في العالم، فما الذي تغير اليوم؟ إيران «الإسلامية» لا تختلف كثيرا عن إيران القومية، فالهدف في النهاية واحد، رغم اختلاف الإيديولوجيا المتبناة، والإنفاق العسكري هو ذاته، إن لم يكن أكثر في زمن الجمهورية، وخاصة مع مشاريع تخصيب الذرة والنواة.

الشعب الإيراني ليس كأي شعب في المنطقة، فهو شعب ذو تجربة سياسية مميزة منذ الدولة القاجارية وحتى الدولة الخمينية، مرورا بالدولة الشاهنشاهية. شعب مر بالكثير من الأزمات، والكثير من الثورات، لعل أبرزها ثورة 1906 الدستورية، وحركة محمد مصدق في الخمسينات، والثورة الإسلامية في السبعينات، وكلها تجارب أضيفت إلى رصيد الشعب الإيراني السياسي. ما يحدث اليوم في إيران ليس ثورة، ولكنه قد يتحول إلى ثورة إذا أصر «الأوصياء» على الثورة، من أفراد ومؤسسات، على التشبث بوضع سياسي واجتماعي قد تكلس وأصبح خارج الزمن، فالجماهير الإيرانية اليوم ليست هي جماهير ثورة 79، فدوام الحال من المحال، وإن لم يدرك رؤؤس النظام الإيراني هذه الحقيقة، فإنهم لا ريب يفتحون أبواب جهنم من جديد. وختاما، ففي إحدى روايات نجيب محفوظ «الحرافيش»، يحذر شيخ البلد الفتوة القاسي من ثورة الناس عليه إن هو استمر في سياسته معهم، ويقول له: «إياك وغضبة الحرافيش.. إياك وغضبة الحرافيش»، ولعل في هذه الجملة خير إيجاز، وفيها كل حكمة يمكن أن تقال.