ماذا يحدث الآن في الشرق الأوسط؟

TT

رغم خطورة خطاب نتنياهو الذي ألقاه في 14 حزيران 2009، فإن معظم وسائل الإعلام العربية تعاملت معه بخفّة، كما فعلت وسائل الإعلام الغربية تماما، ولكن الأولى زادت أنه «أغلق الباب أمام التسوية» أو أنه «لم يعترف بدولة حقيقية للفلسطينيين»، أو «أن الدولة الفلسطينية التي اقترحها ممسوخة وبدون سيادة». ولكنّ خطورة الخطاب أبعد من ذلك بكثير. فقد بنى نتنياهو خطابه على أساس الوثيقة التي قدمت له عام 1996 حين كان رئيسا للوزراء بعنوان «تغيير جذري: استراتيجيا جديدة لضمان أمن المملكة». وقد أعدت هذه الوثيقة مؤسسة «الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة الأميركية» «مجموعة الدراسة حول استراتيجيا إسرائيلية جديدة: نحو الـ2000».

يهدف جوهر الوثيقة إلى بسط إسرائيل سيطرتها على الشرق الأوسط برمته بعد أن تتخلص من التهديد العراقي والتهديد الإيراني وتهديد حزب الله وضرب سورية أو احتوائها، ويعني هذا تخليّا جذريا عن شعار «سلام شامل» والتحوّل إلى مفهوم تقليدي عن الاستراتيجيا يعتمد على استخدام القوتين العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية لإخضاع المنطقة برمتها للهيمنة اليهودية.

وتقول الوثيقة «إن مطالبتنا بالأرض التي علقنا عليها آمالنا منذ ألفي سنة شرعية ونبيلة، فليس ضمن نطاق «قوتنا الخاصة» مهما قدمنا من تنازلات، أن «نقوم بالسلام بشكل أحادي»، فوحده قبول العرب غير المشروط بحقوقنا، خصوصا ضمن بعدها الأرضي «السلام للسلام»، يشكل قاعدة صلبة للمستقبل، فعطش الشعب اليهودي لحقوق الإنسان ـ المنصهر داخل هويتهم بفعل حلم عمره ألفا عام للعيش بحرية على أرضهم الخاصة ـ يلهم مفهوم السلام ويعكس استمرارية في القيم مع التقاليد الغربية واليهودية».

لنقارن هذا النص بما ورد في خطاب نتنياهو يوم 14/6/2009 حين قال: «الحقيقة البسيطة هي أن جذر وأساس هذا النزاع ما زال هو رفض الاعتراف بحق الشعب اليهودي بدولة في وطنه التاريخي.. وبالتالي أقول إن العلاقة بين اليهود وبين الأرض الإسرائيلية تعود لأكثر من 3500 عام، وهذه حقوقنا في السامرة وأراض أخرى كما أن نبيّنا سليمان بن داوود كان في هذه الأرض التي تعود ملكيتها لأجدادنا وأسلافنا».

وهكذا أنهى نتنياهو أي جدل حول حق الشعب الفلسطيني في استعادة وطنه فلسطين حرا مستقلا، من وجهة النظر الإسرائيلية هذه يتم تبرير حملات المجازر والتهجير والقتل المستمرة منذ ستين عاما، باعتبار أن غايتها الأساسية هي إنكار حق الشعب الفلسطيني في أرضه واعتبار الفلسطينيين جالية يجب أن تعيش دون حقوق تاريخية في الأرض ودون حق في الحرية أو الاستقلال ضمن دولة وطنية، وعلى هذا الأساس فإن نتنياهو مستعدّ للتفاوض على أساس أن الفلسطينيين شعب بلا أرض ولا حرية ولا حقوق إنسان، وأن لا مكان لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، وأن عاصمتهم القدس ستصبح العاصمة الموحدة لإسرائيل اليهودية التي يجب أن يغادرها الفلسطينيون إلى المنافي المجهولة! أي أن نتنياهو يسعى إلى إعادة قصة الدياسبورا وذلك بتهجير الفلسطينيين كلهم من أرضهم كلها ونفيهم إلى أصقاع الأرض!

ومن أجل ضمان أمن حدود إسرائيل الشمالية تنص الوثيقة على ضرورة أن تستأثر إسرائيل بالمبادرة الاستراتيجية عبر ضرب البنى التحتية في لبنان، وضرب أهداف عسكرية في لبنان، وأهداف محددة في الأراضي السورية. وقد قامت إسرائيل بالفعل بضرب لبنان في عام 2006، وتوجيه ضربات ضمن الأراضي السورية.

كما تنص الوثيقة على أن الكثيرين من العرب « مستعدون للعمل مع إسرائيل: من المهم تحديدهم ومساعدتهم»، وهذا هو أساس شبكات التجسس التي تم اكتشافها في لبنان وأخرى لم يتم اكتشافها بعد في الدول العربية التي تحاول الاستراتيجية الجديدة ضمها بحلف معلن إلى إسرائيل بهدف ضرب سورية وإيران وحزب الله.

ومع أن الوثيقة تحدثت عن إزالة صدام من السلطة «كهدف إسرائيلي استراتيجي مهم ومحق»، فمن الواضح أن الهدف هو إضعاف العراق كدولة وإخراجه من دائرة التهديد. ومن الواضح من خطاب نتنياهو ومن الوثيقة اللتين تتطابقان تطابقا لافتا بالفعل، أن إسرائيل تشعر بنفسها أنها بلغت مرحلة النضج، وأنها قادرة على اتخاذ قرار مستقل عن الولايات المتحدة، وأنها من اليوم فصاعدا تريد التعامل بندّية مع الولايات المتحدة «في شراكة أميركية إسرائيلية ترتكز على الاعتماد على الذات والنضج والتبادلية». والاستراتيجيا الإسرائيلية الجديدة تعكس الاستمرارية مع القيم الغربية عبر التأكيد على أن إسرائيل تعتمد على ذاتها ولا تحتاج للقوات الأميركية في أي شكل من الأشكال لحمايتها.. وأنها تستطيع إدارة شؤونها الخاصة. إن اعتمادا على الذات مماثلا قد يمنح إسرائيل حرية عمل أكبر ويزيل ضغطا مهما استعمل ضدها في الماضي».

يحكى أنه في الذكرى المئتين لاستقلال الولايات المتحدة ألقى مسؤول إسرائيلي كلمة هناك وقال «كما أسست الولايات المتحدة نفسها لتصبح دولة عظمى، تأمل إسرائيل أن تكون دولة عظمى خلال أقل من مئتي عام». هذه الخلفية الفكرية المكتوبة والمطروحة في مراكز الأبحاث تفسّر لنا اليوم لماذا يقف ليبرمان في قلب واشنطن ويقول «لن نوقف الاستيطان» دون أن يخشى أي رد فعل حقيقي من الولايات المتحدة حتى وإن كانت تقف إلى جانبه وزيرة خارجية الولايات المتحدة والتي تؤكد «أن وقف الاستيطان شرط أساسي لإحلال السلام»، وأن حكومة الرئيس أوباما «تريد وقفا كاملا للاستيطان». إذا نحن أمام مرحلة جديدة في نظرة «إسرائيل» لذاتها ونظرتها «للفلسطينيين» ونظرتها للإقليم وللعالم. والسلام الاقتصادي الذي يتحدث عنه نتنياهو هو هدف إسرائيل الاستراتيجي بالسيطرة على العرب جميعا ومشاركة الغرب في نهب نفط وأسواق العرب كي تتحول عبر تحقيق أداء اقتصادي على مستوى العالم إلى قطب مالي واقتصادي، وبذلك تكون قد حققت شرطي ظهور الإمبراطورية اليهودية ألا وهما: القوة العسكرية والقوة الاقتصادية.

هل أصبحت الصورة أكثر وضوحا اليوم، وهل يمكن أن نعيد قراءة ما جرى ولا يزال يجري في العراق ولبنان وسورية وإيران، والتحديات التي تواجهها البلدان العربية كافة نتيجة للاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة التي تخطط لإقامة إمبراطورية يهودية على أنقاض الوجود العربي، سواء من خلال الملاحقة والقتل والحصار كما تفعل بالفلسطينيين، أو من خلال التجسس والحرب كما فعلت بالعراق وفي لبنان، أو من خلال توجيه ضربات لمراكز معينة كما فعلت ضد سورية، أو من خلال إثارة القلاقل والتحديات كما يحدث للنظام الإيراني اليوم أمام أعيننا. فالأمور مترابطة استراتيجيا، والصهيونية المسيطرة أساسا على مراكز المال والإعلام والإدارات السياسية في الغرب مستعدة للقيام بما يلزم كي تسيطر على المنطقة العربية، خاصة أن نظرتها العنصرية للعرب والمسلمين تؤهلها لذلك. إذ كل ما تراه إسرائيل اليوم هو الدولة اليهودية التي تخلّصت فيها من الأغراب، وكل ما ترتكبه من جرائم تبرّره بضرورات أمن مملكة إسرائيل طبعا، وهي تعمل بكل الوسائل الممكنة لتحقيق الإمبراطورية اليهودية مدعومة بالشعور الغربي بالذنب تجاه المحرقة.

العرب جميعا هم الأطراف المستهدفة مباشرة، وهم ضمن دائرة الخطر على وجودهم، وليس فقط مصالحهم وحقوقهم، وعلى أنظمتهم المتصارعة أن تدرك وحدة مصيرها ووجودها، وأن تتعاون بصدق وإخلاص لمواجهة هذا الخطر الإسرائيلي الداهم والحقيقي، والذي يشكّل بخطورة تهديده الاستراتيجي للوجود العربي نقلة نوعية في الخطر الذي تمثله إسرائيل على أمن واستقرار منطقتنا ككل في القرن الواحد والعشرين. لقد حان الوقت للتخلّص من التفسيرات الساذجة والمجتزأة التي يكرّرها البعض لتبرير عجزهم أو لتبرير مواقفهم القديمة، وعلى الجميع قراءة ما يجري حولنا من منظور استراتيجي قادر على مواجهة التحديات التي تمثلها الاستراتيجيا التي اقترحتها الصهيونية وأعوانها منذ عام 1996 لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه بنيامين نتنياهو، والذي لم يكن قادرا حينئذ على اتخاذ الخطوات السافرة التي يتخذها اليوم، والتي عبّر عنها بوضوح في خطابه.

فهل بين البنى الفكرية والسياسية والإعلامية العربية من يقرأ أو يخطط ويواجه، أم أن مصير طوائف الأندلس ينتظرنا؟! الأمر يحتاج إلى الإرادة أولا!.

www.bouthainashaaban.com