خواطر من واشنطن

TT

دعاني الصديق الدكتور صفا رفقة، رئيس مجلس إدارة اللجنة الأمريكية ــ العربية لمكافحة التمييز، خلال وجودي العابر في واشنطن ــ دعاني لحضور مؤتمر اللجنة السنوي الذي انعقد في العاصمة الأمريكية في 13 يونيو 2009م.

كان الرئيس الأمريكي السابق السيد بيل كلينتون المتحدث الرئيسي في ذلك الاجتماع. ويقدّر للرئيس الأمريكي مساندته المعنوية لجالية عربية أمريكية لا تزال تعاني إفرازات أحداث حسبت عليها، رغم استنكارها لها، وإدانتها لفاعليها.

ومعاناة الجالية العربية في أمريكا ظاهرة سياسية واجتماعية حديثة المنشأ. فهي ليست، في الأصل، ظاهرة عنصرية قوامها العرق أو العقيدة. إنهـا غضبة علـى العرب، وحقد عليهم، وريبة في نواياهم منذ أحداث 11 سبتمبر 2001م.

الولايات المتحدة الأمريكية أمة من البيض، والسود، والسمر، والصفر تستظل بدستور عزيز المكانة ثابت الأركان، يضمن حرية الفرد وحقه في السعي والإنجاز، وتحقيق المعجزات ما دام سعيه في حدود القانون. ولم يستثنِ هذا الدستور من حقوق المواطنة، على أساس عنصري، العرب أو غير العرب. فقد انصهرت مكونات الشعب الأمريكي المتعدد الأجناس في وعاء بشري ضخم اسمه الأمة THE NATION لتصبح أقوى أمة على وجه الأرض. وقد أتاحت هذه الحقيقة للعديد من العرب الأمريكان أن يصبحوا ذوي شأن في العمل العام، وفي القطاع الخاص إلا ما كان استثناء، غير مألوف، من ذلك.

ويقتضي ترابط الموضوع أن أعود إلى ما أتيت عليه في مقال سابق وهو أن الإنسان لا يولد كارها لإنسان آخر. وأن الإعلام هو الذي يحدد مواقف الإنسان من الأحداث ومن الشعوب. وليس هناك، في اعتقادي، حالة أكثر التصاقا بهذه الحقيقة من حالة هيمنة الإعلام الأمريكي على فكر المواطن الأمريكي، وعلى مشاعره.

ولم يكن هذا الإعلام، يوما، رحيما بالعرب. فهو بين إعلام صهيوني، مغرق في صهيونيته، أو إعلام موالٍ لإسرائيل موالاة بارعة ذكية. يعزز من وجودها، يحيطها بكل ما يرفع من شأنها من «صفات الرقي في الفكر الإنساني والأخذ بمبادئ العالم المتحضر في الحياة والديمقراطية».

يقابل ذلك جهد متواصل محموم للإقلال من شأن العرب «الكارهين لإسرائيل، الرافضين التعايش معها، المسكونين برغبة الثأر منها، الانفعاليين في مواقفهم، الذين يفتقرون إلى روح التسامح والحوار»!

هذا وجه من وجوه السلبية في رؤية المواطن الأمريكي للعرب برعت الآلة الإعلامية الصهيونية الضخمة، على امتداد عقود عديدة، في تحويلها إلى ما يشبه العقيدة لديه.

على أن موقف المواطن الأمريكي من الخلاف العربي الإسرائيلي لم يخالطه من مشاعر الغضب والعداء إزاء العرب على نحو ما هو عليه الآن. فقد ظل موقفه موقف المتعاطف مع «دولة ديمقراطية صغيرة اسمها إسرائيل راغبة في العيش مع العرب في سلام» وموقف العجب والاستنكار للموقف العربي الرافض لهذا السلام!

وقد عجز العرب عن إجهاض هذه الأكذوبة الصهيونية الكبرى. وكانت هذه واحدة من إخفاقات العمل العربي في الخارج، بل ربما كانت أكبر إخفاق فيه.

ولم يكن الإعلام الصهيوني المناهض للعرب، يوما، قاصرا على الأمريكتين، بل كان مجاله العالم بأسره. عرفته في فرنسا وألمانيا وأنا أعمل سفيرا لبلادي هناك. إلا أن نفوذه في الولايات المتحدة الأمريكية جعل منه سلاحا يرهب ويرعب ويحسب له الساسة الأمريكيون الكبار ألف حساب.

وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001م بكل ما حملته من جرح لكبرياء الدولة، وكبرياء الأمة، وعنف دموي مذهل، وعمل إرهابي جهنمي في تخطيطه وتنفيذه طاشت معه العقول. وشعر المواطن الأمريكي أنه قد ضُرب في أمنه. كان يعيش في قناعة الوطن المحصن ضد مصادر الأذى والاعتداء، الوطن المقدر المَهيب الذي لا تجرؤ يد على أن تطاله بسوء، فإذا بهذا المواطن الأمريكي يضربه فزع شديد، يجرده من كل تلك القناعات ليصبح ذا قناعة مرعوبة أخرى هي أن اليد التي وصلت إليه على هذا النحو المرعب المدمر قادرة على أن تصل إليه في موقع آخر.

وجاءت ردود الفعل لتعزز من مشاعر الغضب والهيجان المنفلت على كل من هو عربي، عندما انكشفت خفايا الكارثة عن حقيقة مذهلة هي أن مجموعة من الشباب العرب كانوا وراء الإعداد والتنفيذ لأكبر اعتداء تعرضت له أمريكا منذ هجوم اليابان على ميناء «بيرل هاربر» في جزيرة هونولولو في صباح 25 ديسمبر 1941م.

وكان طبيعيا أن ترتد هذه المشاعر الغاضبة على الجالية العربية في أمريكا، وأن تكون أول ضحايا هذه النازلة الأمنية والسياسية التي ضربت أقوى دولة في العالم، بلا منازع.

ولم يقف الغضب الأمريكي من العرب عند أحداث سبتمبر، فقد استمرت صورة الإنسان العربي في الازدياد تشوها وسوءا. وبرزت جماعات عربية حجرية الفكر، ظلامية العقيدة، مناهضة للحياة، ركبت مركب الإسلام كي تمارس خطف الأبرياء، وفصل رؤوسهم عن أجسادهم لتزداد كراهية الأمريكي لكل ما هو عربي.

وتولت التفجيرات الانتحارية الطائفية في العراق، التي تسقط على نحو دموي، موغل في دمويته، المئات من الأبرياء، كما تُسقِط المصائد سربا من الفئران، والتي روعت العراق، وارتاعت لها الدنيا أيضا ــ تولت، هي أيضا، الهبوط بقيمة الإنسان العربي إلى ما يشبه العدم!

وجدت لجنة التضامن العربية الأمريكية نفسها، في أعقاب نازلة سبتمبر وما تلاها، في وضع مفاجئ حرج كاد يصيبها بالشلل ويُفقِدها القدرة حتى على رفع يديها بالإدانة والاستنكار. ولاذت في صمت، جزع، منكسر، حزين. كان يراد لها أن تحمل بعضا من أوزار ما حدث. أليست هي اللجنة التي تدافع عن العرب «مفجري الأبراج، والبنتاغون، رموز العظمة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وقاتلي ثلاثة آلاف أمريكي بريء»؟!

وتحولت، منذ ذلك التاريخ، جهود الجمعيات العربية في أمريكا من العمل دفاعا عن قضايا العرب، إلى العمل دفاعا عن النفس، ودرءا لكل تداعيات الغضب والحقد على كل ما هو عربي.

ولأن النسيان دواء لكل أحزان الحياة، ولأن حروب الرئيس بوش في العراق وأفغانستان، وما خلّفته من مآس قد تحولت إلى هم وطني، وتوابيت القتلى من الجنود الأمريكيين تتوالى، تباعا، فقد استعادت الجمعيات بعضا من الثقة في النفس الأمر الذي هيأ لاجتماع اللجنة الأمريكية العربية متحدثا رئيسيا عالي المقام، هو السيد بيل كلينتون بحضور ستة من أعضاء الكونجرس الأمريكي.

إن الجمعيات العربية الأمريكية، والجمعيات العربية الأوربية من أدوات العمل السياسي الخارجي المؤثر إذا أُحسنَ تنظيمها، واستقام أداؤها، وبقيت في منأى عن محاولات التسييس العربية والتنافس الداخلي حول الإدارة والمسؤوليات. فما يتاح لهذه الجمعيات من مجالات العمل السياسي لا يتاح للسفارات العربية أو مكاتب الجامعة العربية.

وقوة هذه الجمعيات تكمن، في تقديري، في استقلالها وحيادها، وتفرغها للعمل العربي. ولن يتسنى لها أمر كهذا إلا في ضمان تمويلها تمويلا مستقلا، مستقرا، يجنبها محاولات التأثير عليها من هذه الدولة أو تلك، شأنها في ذلك شأن الجمعيات الأخرى العاملة، باستقلال، في حقول الدفاع عن الوطن ومصالحه في الخارج.

وبعد، أود أن أنهي هذه الخواطر العابرة بما يلي:

في برنامجها التلفزيوني «God"s Warriors» عن غلاة المتعصبين في الأديان السماوية الثلاثة، سألت السيدة كريستيان آمانبور مراسلة قناة الـ«سي إن إن» CNN التلفزيونية ــ سألت واحدا من غلاة المحافظين الجُدُد، في ولاية تكساس الأمريكية، عن رأيه في خلاف العرب مع إسرائيل فقال لها إن الله قد دعا في كتبه السماوية الثلاثة إلى مناصرة إسرائيل. وهذه سياسة الله الخارجية!

سألته المراسلة ضاحكة: هل الله له سياسة خارجية؟ فقال: نعم!

ولم يكتفِ هذا الثري من المحافظين الجدد، المأخوذ بتعصب أعمى لإسرائيل، لم يكتفِ بهذا القدر من الهذيان واللغو الباطل، بل جلب حجرا من القدس وبنى في ولايته حائطا أسماه حائط المبكى!

والخطير في الأمر أن صاحب هذا الموقف ليس معدما لا يملك من مواقفه إلا المجاهرة برأي سقيم. بل إنه ــ كما جاء في المقابلة التلفزيونية ـــ ثري كبير له استثمارات واسعة في لاس فيجاس، أي أنه يملك القدرة على الإيذاء، وتسخير أمواله من أجل عقيدته...!

بقي أن أذكر أن الذي قام بتأسيس لجنة التضامن الأمريكية العربية لمكافحة التمييز عام 1981م هو السيد جيمس أبو رزق عضو مجلس الشيوخ السابق، وهو لبناني مسيحي. وأن الدكتور صفا رفقة رئيس مجلس الإدارة الحالي المنتخب، هو أيضا طبيب لبناني مسيحي.

وأن أذكِّر (بالكاف المكسورة المشددة) أن آل تقلا (بشارة تقلا وأخاه) والسيد جورجي زيدان اللبنانيين المسيحيين، كانوا من رواد العمل الصحافي في مصر، قبل مائة عام، وإليهم يرجع الفضل في وجود دار الأهرام ودار الهلال، وأن الانتماء إلى العروبة، والاعتزاز بهذا الانتماء، ليس وقفا على دين دون دين آخر.

* وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية