إيران.. الشرعية والطموح والانسداد

TT

«.. فتوهُّم أن صلاحيات النبي (ص) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (ع)، وصلاحيات أمير المؤمنين (ع) أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهّم خاطئ وباطل»

(آية الله الخميني)

بادئ ذي بدء، لا أشعر بثقة كبيرة في التنظير إزاء ما يمكن أن يحدث في إيران خلال الأيام والأسابيع المقبلة بعد تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وأزعم أن كثيرين من الذين أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع الشائك خلال الأسبوعين الأخيرين، بالذات، إما كانوا يُراهنون آملين بمتغيرات ما، أو أقنعوا أنفسهم بأن النظام وصل إلى طريق مسدود وعليه ما عادت المسألة سوى مسألة وقت قبل سقوطه الحتمي. كما أزعم أن أصحاب كل من هذين الاتجاهين المتناقضين بنى فرضياته على قناعات أو تسريبات أو تقارير، قد تصحّ أو لا تصحّ.

ما أود أن أقوله هو أن الإيرانيين يجدون أنفسهم في وضع غير مألوف.

غير مألوف، بالأخصّ، بعد المداخلة الغريبة التي اختار «الولي الفقيه» ومرشد الثورة آية الله علي خامنئي أن تكون أحادية التوجه، واضعاً من خلالها منافسي مرشحه المفضّل، الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد، أمام تبعات تهمة «التآمر» على الثورة والشرعية.. إذا ما واصلوا الاعتراض على النتيجة.

ما فعله خامنئي، سيكون سياسة خطيرة من المهم جداً رصد طريقة تعامل الشعب معها. فهل ينجح في ترويع منافسي أحمدي نجاد، و«خنق» حركة الاعتراض و«التنفس» التي عبّروا عنها، بعضهم أو كلهم، بطريقة أو بأخرى؟

أم أنه أطلق مساراً مجهول العواقب بإنزاله هيبة «الولي الفقيه» من سدّة المرجع الأعلى، الذي يسمو على تناقضات الأتباع، إلى موقع قيادة جناح من الأجنحة المتصارعة في نظام دخل مرحلة بالغة الحساسية في شعاراته وطموحاته وعلاقاته ببيئته الداخلية ومحيطه القريب والمجتمع الدولي؟

أساساً، كان خامنئي قد باغت المراقبين بتعجّله تحية فوز أحمدي نجاد قبل الإعلان الرسمي النهائي للنتائج. وبعد ردّة الفعل المعترضة في الشارع، جاءت مداخلته لتقطع فعلياً الطريق على أي مراجعة للاعتراضات من قبل الجهات المخوّلة بذلك.

وهنا من المفيد القول إنه إذا كان ثمة مَن لا يشك مُطلقاً في حدوث تزوير واسع النطاق، فهناك أيضاً جماعة من المراقبين الغربيين تستبعد أن يكون حجم التزوير قد أثّر تأثيراً مباشراً على قلب النتيجة رأساً على عقب. ولكن من الطبيعي جداً أن نجد عند قوى «حركية» لا تعني لها الديمقراطية الانتخابية ما تعنيه للمجتمعات الغربية الحرص على ضمان فوز ما تعتبره «الخيار الإلهي» الصحيح بصرف النظر عن الوسائل.

فـ«الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، كما قال أحد الأصدقاء من الكتّاب السياسيين الإيرانيين بكثير من الصدق، ليست «إسلامية» لأنها تتبنّى عقيدة تعتمد على «ولاية الفقيه» وهو مفهوم غريب تعارضه أغلبية ساحقة في العالم الإسلامي من شتّى المذاهب، وليست «جمهورية» ديمقراطية لأن السلطة الفعلية في يد «المرشد الأعلى» وليس الشعب، وهي من الناحية التقنية ليست «إيرانية» الهوية لرفضها تاريخ «إيران ما قبل الثورة» بالإضافة إلى اعتبارها مفهوم القومية في حدّ ذاته مناقضاً للإسلام. وبالمناسبة، الشقّ الأخير هو ما يستخدم اليوم بكثير من الذكاء في العودة إلى استراتيجية التمدّد الخارجي أو «تصدير الثورة».

عودة، إلى موضوع الانتخابات وشوائبها، إذا كان من مجال للمقارنة بين الحالتين الإيرانية واللبنانية هنا، فإن أحد المرشحين الخاسرين بدائرة النبطية (في جنوب لبنان) وعد بتقديم طعن إلى الجهات المسؤولة لا يدّعي فيه الفوز.. بل يكتفي بالإشارة إلى أن اثنين من النواب الفائزين على لائحة «حزب الله» في الدائرة حازا عدداً من الأصوات أعلى حتى من إجمالي عدد الأسماء المُدرجة على جداول الشطب (أي جداول الناخبين المسجلين الذين يحق لهم الاقتراع). هذه النقطة، بالذات، كانت مصدر شكوى عدد من الجماعات المقرّبة من مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي في إيران. وهي أيضاً ما تطرّق إليه خامنئي في تبنيه الكامل فوز مرشحه المفضّل الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد عندما تحدّث عن فارق الـ11 مليون صوت وكيف يمكن التزوير في 11 مليون!

التزوير الجزئي، أو المحدود، لا يعود تزويراً بإزاء الصورة الكاملة لـ«اليوم العظيم» حسب وصف خامنئي.

هنا نحن أمام معيار تفصيلي ليس لجوهر «الديمقراطية»، المختلَف عليه أصلاً في حالة الجمهورية الإسلامية في إيران، بل لشكلها أيضاً. التزوير المحدود في وضع كهذا لا يعود تزويراً إذا كانت النتيجة محسومة سلفاً، أو يجب أن تكون كذلك، سواء لأن إرادة «الولي الفقيه» أعلى من الآلية الانتخابية، أو لأن قوى الأمن والنظام الموالية له تستطيع حيث شاءت خلق حالة شعبية أو انتخابية تشلّ إمكانيات من لا يريد لهم النجاح.

اليوم، إيران.. الشعب الحيّ والحضارة العريقة المبهرة، وأيضاً إيران «الدولة الثيوقراطية» على مفترق طرق. وفي صميم مصلحة محيط إيران المباشر، وعلى رأسه المشرق العربي، أن يكون الخيار المقبل سلميّاً وعاقلاً يفضي إلى ما فيه مصلحة هذا الشعب واستمرار هذه الحضارة، بغضّ النظر عما قد يحدث أو لا يحدث لـ«ثيوقراطية» الدولة.

فحتى على الجانب الديني المذهبي، من الواضح اليوم في إيران، كما كان واضحاً في الماضي، أن تركيبة النظام السياسية والأمنية ذات مصلحة ذاتية خاصة بها.. ولو كانت تستمد شرعيتها من المؤسسة الدينية. وآية الله علي خامنئي، كما يشير المطلعون، لا يحتلّ طبقة متقدمة بين «مراجع التقليد» حيث ثمة كثيرون أعلى منه مكانة، على رأسهم آيات الله العظمى علي السيستاني وبشير حسين النجفي ومحمد إسحاق فياض في النجف الأشرف، وآيات الله العظمى حسين منتظري وعبد الكريم موسوي أردبيلي وناصر مكارم الشيرازي في إيران.

في المقابل، غدا التناقض الطبقي والفكري بين الشخصيّات التي صنعت الثورة الإيرانية، أو ساهمت الثورة في صنعها، أكثر تأزّماً في ظل إخفاق السياسات الاقتصادية، والتركيز على الأولويات الأمنية والعسكرية (الدفاعية والتوسعية). وبلوغ هذا التناقض حد تلويح خامنئي بتهمة التآمر ـ أو على الأقل العصيان ـ على رئيس سابق للوزراء ورئيس سابق لمجلس النواب، تطوّر خطير يجب التعاطي معه من ناحية افتقار النظام شيئاً فشيئاً لـ«جهاز أمان» يمنع تفاقم الانسداد السياسي والأمني ويحول دون الانفجار الكبير.