غابات الاقتراع

TT

لا أعرف ما هي نسبة الانتخابات السليمة في الشرق على وجه الضبط، بالمقارنة مع سلامة العملية الاقتراعية في دول القانون. لكننا جميعا نعرف، أو نشعر، أنها شبه معدومة، إلا من حالات نادرة، كالانتخابات الأخيرة في لبنان. لكن حتى حيث الانتخابات سليمة والاقتراع غير افتراضي أو غير مساخري، لا يزال الإنسان الشرقي ناخبا عشوائيا غرائزيا، آخر همومه المشروع الوطني أو القومي أو الاجتماعي.

لا أدري ما هي نسبة الخيارات الموضوعية في انتخابات لبنان الأخيرة. اثنان في المئة؟ ثلاثة؟ لقد اقترع اللبنانيون «ضد» خصومهم وليس «مع» مرشحيهم. وبقيت العوامل القائمة منذ حوالي القرن أو ساءت وتدهورت. ولذلك جاءت نسبة النواب الذين يمثلون التطور اللبناني ضئيلة جدا هي أيضا. وقد جاء للاقتراع في لبنان عشرات الألوف من المغتربين المقيمين في أميركا وكندا وأوروبا وأستراليا، لكنهم تركوا خلفهم كل القواعد المدنية التي يمارسونها هناك بصورة عفوية، وعادوا مجموعة عشائر وفرق وخلافات موروثة. وبعد عقدين على نهاية الحرب كانت الحرب هي المقترع الأول، خصوصا في أوساط بعض المسيحيين. وكان المقصود بالنظام الاقتراعي في الأساس دمج الطوائف والجماعات في مجتمع مدني واحد، فإذا الانتخابات الأخيرة تكشف عن أفظع وأسوأ تلازم طائفي وعشائري منذ الاستقلال.

ليس في مصلحة أحد في الشرق أن تبلغ المجتمعات مرحلة الخيار الموضوعي، أو أن تتجاوز مكوناتها ومركباتها وعناصرها الجاهلية. ففي مثل هذا الوضع المريح يظل المرء شجرة في غابة تميل مع الريح وتصفر مع العاصفة، لكي تردد الإيقاع نفسه من دون أن تقول شيئا.

وفي الوقت نفسه تتلحف الأنظمة ببطانية برلمانية واسعة وتشكل وفودا برلمانية تقوم بزيارة مجلس العموم البريطاني، الذي أسقط رئيسه بسبب «نثريات» في مصاريف النواب. بل يكون لها أيضا اتحادات (في وجه من وخوفا مِن مَن وحرصا على ماذا). والبرلمان العربي مثل الحرية العربية ومثل النقابة العربية, مسميات كمالية فاخرة في مجتمعات واهية، خالية الإرادة وخاوية الجوهر. وعندما نقارن عدد المستحقين الكبار في لبنان بنسبة الفائزين ندرك مدى رخاوة المجتمع المدني. ناهيك طبعا عن الذين عزفوا عن دخول المعركة حرصا على كراماتهم الفكرية والثقافية وأحيانا الإنسانية.