الكلام المُحنِّن والكلام المُجنِّن في بلاد آية الله

TT

مثلما أن «الجمعة العظيمة» لدى إخواننا المسيحيين هو يوم الحزن العميق على السيد المسيح عيسى بن مريم، فإن يوم الجمعة 12 ـ 6 ـ 2009 سيبقى حتى إشعار آخر يوم «الجمعة الأعظم» أو يوم الانتفاضة الإيرانية من أجل التغيير التي لم يوقِد شعلتها آية الله الخميني على نحو ما حدث عام 1979 ولم تكن أصلا بدافع التغيير وإنما بدافع الثأر من الشاه الذي قتل سافاكوه (أي مخابرات الإمبراطور) الابن مصطفى قُُرَّة عين والده آية الله الخميني، وإنما الذي أوقد الشعلة رجل دولة علماني متدين اسمه مير حسين موسوي يخاف الله وصاحب تجربة في إدارة شؤون البلاد ورعاية مصالح العباد وليس في تاريخ ممارسته العمل الرسمي ما يمكن اعتباره شوائب، كما أن له رؤية ثاقبة لما يحدث في العالم ولما آلت إليه علاقات إيران مع الجيران والأصدقاء ومع دول العالم عموما باستثناء فنزويلا لأن بين الرئيسين الحاكميْن الطموحيْن هيوغو تشافيز ومحمود أحمدي نجاد جوامع مشتركة من بينها شغف الاثنين في أن يكونا إمبراطوريْن جديديْن في زمن اندثرت فيه مظاهر العظَمَة، وبات الحاكم الصالح تبعا لذلك هو من يوظِّف مكانة بلده وثروتها في خدمة الناس وتطوير حياتهم وبناء مستقبل واعد لأبنائهم ونجدة الملهوف والمحتاج والذي إذا أصابته مصيبة في أمة المليار ونصف المليار نسمة وجد مَنْ يخفف الضيم عنه، وهذا ما يفعله الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي دعا أبناء الأمتين له بطول العمر وموفور الصحة لمناسبة الذكرى الرابعة لتوليه مقاليد الحكم التي صادفت يوم الجمعة 19 ـ 6 ـ 2009.

أما مستلزمات التتويج الإمبراطوري في نظر الاثنين فهي: بالقدرات المالية من النفط وليس من السجاد والفستق يبني الرئيس نجاد قوة نووية وصاروخية عابرة للحدود ويصل مداها إلى إسرائيل وبعض دول أوروبا ويعزز شأن الأعماق المذهبية في لبنان ويصادر نصف القرار الفلسطيني من خلال الاستئثار بـ «حركة حماس» وفصائل الصف الثالث المستوطِنة في سورية ويخص روسيا بأن تكون المتعهد النووي والصاروخي. وفي الداخل يستقطب «الحرس الثوري» كما استقطاب الرئيس صدَّام حسين من قبْل لـ «الحرس الجمهوري» وبذلك يصبح جنرالات الحرس مثل جنرالات ألمانيا في زمن الفوهرر، كما يواصل، مدعوما برعاية المرشد والآلة الإعلامية، التوجيه بأن القضية المركزية في برنامجه هي تحقيق أمنية المسلمين في إزالة إسرائيل، واستعادة ثالث الحرمين، المسجد الأقصى، لأن العرب غير قادرين على ذلك. وعلى هامش هذه البحبوحة في بناء العظَمَة يهتم بفقراء إيران متناسيا الشريحة الأهم وهي إيران المثقفين وإيران البازار الذي بفضل مؤازرة تجاره أمكن الخميني تحقيق ثورته عام 1979.

أما بالنسبة إلى الطامح الآخر في أن يكون إمبراطورا في القارة الأميركية الجنوبية هيوغو تشافيز فإنه اختصر الأمر بتحدي أميركا وتوريث نفسه زعامة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو على أساس أن الرجل مريض وتنحى طوعا وأن شقيقه راوول على أهبة الانتكاس الصحي لكن لا يتحمل إقحام تشافيز نفسه في أمر كوبا. ومع ذلك فإن الفنزويلي الطامح المستند، كما الرئيس نجاد، إلى ورقة النفط في بناء التطلعات، لا يستكين ويدق، كما الحكم الإيراني الخامنئي – النجادي، أبواب نقاط الضعف والعوز في أميركا الجنوبية أملا في تكوين كتلة تؤهِّل تشافيز ليكون الزعيم الأول في القارة الأميركية الجنوبية في مواجهة الزعيم الأول في القارة الأميركية الشمالية. لكن الذي حصل أن الرئيس باراك أوباما الذي جاء على جناح التغيير واستعادة الوعي أربك الاثنين كما لم يرتبكا مِن قبل. فقد ارتأى الطامح الفنزويلي، وكانت تجددت رئاسته، الاكتفاء بعد لقاء باراك أوباما بتقديم كتاب له أراد به تذكيره بمساوئ أميركا الماضي ولم يعد مسلطا اللسان بأغرب أنواع المفردات في حق أميركا. أما الطامح الإيراني فاستمر يتحدى مقتنعا بأنه قادر على تحقيق التطلعات من خلال تطوير الخيار النووي والصاروخي والإبقاء على الحذر الخليجي منه قائما، وإلى ذلك ورقة الأعماق تلك الذراع التي تتبادل إيران معها الاستقواء، ونعني بذلك «حزب الله» في لبنان و«حركة حماس» في غزة إلى جانب الثقل النوعي في العراق الحالي.

ما حصل في إيران يوم «الجمعة الأعظم» كان نقطة تحوُّل في تاريخ بلد أرادت جمهوريته التاسعة أن تستكمل مع جمهوريته العاشرة في حال تحقَّق الفوز للرئيس نجاد أن يكون إمبراطورية. بل إن الخطة المرسومة كانت على هذا الأساس مع استهانة بالغة من الرئيس نجاد في الطيف المنافس وبالذات مير حسين موسوي. وكيف لا يستهين ما دام المرشد معه والحرس وراءه. وما دام الكلام، الذي يجنِّن في حق موسوي وزوجته والشيخ رفسنجاني وأسرته والرئيس السابق خاتمي والطيف الخاتمي عموما، قيل في حدة لا مثيل لها عبْر مناظرات تلفزيونية، بدأ يتفاعل ويلقي ظلالا ثقيلة الوطأة على المنافسين. وعمليا فإن الانتخابات في ذاك اليوم الجمعة 12/6/2009 وفي المناظرات المُستنسخة من التقاليد الانتخابية الأميركية والأوروبية وغير المألوفة في دول العالم الثالث، كانت ديمقراطية ومحل إعجاب وتقدير المتابعين لها، لكن ظاهرة الإقبال المنقطع النظير على الاقتراع جعلت راسمي خطة استمرارية الرئيس نجاد يستدركون الصدمة عند الفرز بما يحقق فوز نجاد، وهو ما اصطُلح على تسميته «تزوير النتائج». ولقد اعتدنا في العالم الثالث على هذه اللعبة غير السوية خصوصا عندما يكون الذي يخوض الانتخابات في موقعه الرسمي وبين يديه كل السلطات وبإمرته كل الأجهزة، بينما مَن ينافسه لا منصب له وربما لا حول ولا قوة. كما اعتدنا على المنافس يرتضي صاغرا أي نتيجة ما دام الرئيس الذي خاض المعركة خرج رابحا. لكن الشعب الإيراني سجل مفاجأة ليست في الحسبان لم تحدث في «جمهورية أبو الحسن بني صدر» ولا في «جمهورية محمد علي رجائي» ولا في «جمهوريتي علي خامنئي» الذي بات مرشدا بدل صاحب الحق في المنصب آية الله منتظري، أو محمد نجيب إيران، ولا في «جمهوريتي هاشمي رفسنجاني»، لكنها حدثت في «جمهوريتي محمد خاتمي» حيث إنه خاض المعركة ضد الرجل القوي الشيخ رفسنجاني بالكلام الطيب الذي يحنِّن وعدم الانشغال بالكثير من القضايا الخارجية فضلا عن اعتماد التواضع وعدم التحدي ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن والأخذ بالحوار سبيلا إلى العلاقة المتوترة بين إيران والغير.. أي تماما نقيض أسلوب الرئيس نجاد ومفردات خطابه وكيْل الاتهامات لمن هم شركاء في ثورة قادها آية الله الخميني. ومِن هنا يجوز القول إن الاتهامات المشار إليها وخصوصا أنها لمست في موسوي سمعته وزوجته وفي رفسنجاني ذمته وأبناءه وفي خاتمي نقاءه ومرونته وفي كروبي تذكيره بأموال مَن اشترى منزله وفي محسن رضائي الرئيس السابق للحرس الثوري تفرُّده في اتخاذ القرار ومحاباته البعض ضد البعض، وكل ذلك لأن المنافسين الثلاثة لمسوا إخفاقات أصابت إيران جرَّاء إدارة نجاد من بينها ارتفاع حجم التضخم ونسبة البطالة والإكثار من توزيع الهِبات النقدية والكَذبِ في الجداول والأرقام حول ما يتعلق بالإنجازات.

يطول الحديث في شأن الانتفاضة الإيرانية التي جاءت بفعل الكم الهائل من الاحتقانات في نفوس الناس. واللافت للانتباه أن الرأي العام الإيراني استوعب ظاهرة التغيير التي حدثت في أميركا بينما لا تحدث في إيران الأحوج إلى التغيير. كما أن اللافت هو التعبير بعفوية ودون موجب للتعبئة المسبقة، وبالأسلوب السلمي الذي يجعلنا نستحضر أسلوب المهاتما غاندي في المواجهة، مع ملاحظة أن طبيعة الهندي تميل إلى المسالمة بينما طبيعة الإيراني حادة ودموية. وسيبقى المنظر الذي يتواجه فيه شرطي نجادي مع متظاهر موسوي أشبه بـ «بوستر» يعكس لِناظره انطباعا بأن إيران تعيش في ظل حكم عسكري يقوده جنرالات وليس ثورة رحيمة يتقاسم آيات الله المناصب الفاعلة فيها.

وأيا انتهى إليه أمر هذه الانتفاضة فإن الذي يمكن قوله إن الكلام النجادي المجنِّن خلاف كلام موسوي المحنِّن كان سببا أساسيا في ما حدث ويحدث وسيحدث، كون الانتفاضة، في ضوء كلام المرشد خامنئي في خطبة الجمعة، قد لا تبقى خضراء ولا مخملية. مع ملاحظة أن المرشد الذي يفرض عليه منصبه أن يكون مع الجميع وحَكما على سير العملية الانتخابية ورافضا أي تلاعب أو تزوير، استمر متمسكا بموقف منحاز كان اختاره منذ البداية أن يكون طرفا بدليل أنه في خطابه الذي ألقاه من سنندج،كبرى مدن كردستان إيران، يوم الثلاثاء 12/5/2009 (أي قبل شهر من الموعد المقرر للانتخابات) حدد مواصفات مَن يجب أن يكون الرئيس على النحو الآتي «شخص يفهم مشاكل الناس، آتٍ من الشعب، يعيش هو وأسرته وأقرباؤه حياة بسيطة بعيدة عن الفساد والإسراف والحياة الباذخة، لا يسعى إلى أن يكون أرستقراطيا». ولم ينقص كلام المرشد خامنئي سوى القول إنه يرى في محمود أحمدي نجاد أنه الوحيد الذي تنطبق عليه هذه المواصفات.

وأما بالنسبة إلى جدار إيران مع أميركا الذي صممه الإمام الخميني قبل رحيله فإنه يتشقق وكذلك مهابة الثورة الإيرانية التي لم تعد كما كان الانطباع عنها، لأن الانتفاضة انتهت إلى أن إيران باتت عمليا اثنتين. ومن مصلحة الذين يحلقون في رحاب الثورة الخمينية أن يتنبهوا إلى هذه الحقيقة وتبدأ من جانبهم إعادة النظر.. وترتيب الأوضاع.