هل تنجو سفينة «الفقيه» المتشققة من العاصفة؟

TT

بخطابه المجدّد لخطبه التي عرفناها منذ ثلاثين عاما، أنهى المرشد احتمالات حصول تبدل في مواقف ولايته، مشددا على أن ما يجري في الشارع الإيراني ليس إلا حالة من التنافس، بين أطراف تكونت تحت مظلة نظام واحد، متجاهلا أن معظم الانشقاقات السياسية في العالم حصلت داخل كيان واحد وقادت إلى صراعات أكثر ضراوة مما يحصل بين كتل متناقضة بالأساس. كما أغفل حقيقة أن ملايين المحتجين لم يخرجوا إلى الشارع إيمانا بشخص موسوي، بقدر ما وجدوا في اتهاماته للنظام وتصديه له، مناسبة للخروج على حكم ولاية الفقيه، فالصراع الحقيقي هو بين الشارع والنظام القائم. ولو سمح بمرشح ليبرالي لعرف العالم أكثر، سعة الفجوة بين الناس والفقيه.

أهم ما في الاحتجاجات أنها أظهرت حقيقتين أساسيتين، هما: درجة المعارضة الشعبية الواسعة لنظام الولي الفقيه، ووجود خلافات وتناقضات عميقة بين أقطاب النظام نفسه. ويمكن التأسيس على هاتين الحقيقتين «المستجدتين» في تحديد طرق معالجة الملفات الإيرانية العالقة مع المجتمع الدولي. فلم تعد الخيارات العسكرية مرجحة أو تأخذ أسبقيات متقدمة (حاليا) في مجمل المقترحات والتوصيات الاختصاصية، بعد أن تَبيّن أثر ما يمكن اتخاذه من خطوات اقتصادية قوية وسياسية وإعلامية في إيجاد متاعب خطيرة للنظام الحاكم، لدفعه للرضوخ إلى منطق العقل. وفي الوقت نفسه ساعدت ذوي الميول المؤيدة لاستخدام القوة، على تأكيد احتمالات انهيار النظام، وربما الدولة كلها، في حال اضطر المجتمع الدولي إلى استخدام القوة لمنع التطورات النووية، بعد أن بدت احتمالات تطور الانقسامات في ظروف الحرب إلى تفكك شامل واضحة.

وحتى إذا حُسم الموقف مرحليا لصالح قوة قمع تجاه حركة مدنية صرف، فإن التعتيم الإعلامي القوي، وتقييد عمل المراسلين، وإيقاف شبكات الهاتف، وفرض رقابة شديدة على الصحف، والتشويش على البث التلفزيوني، ومليونيّة التظاهرات، واستخدام القوة لمنعها، واستخدام مفردات المشاغبين والقمع... بدّدت ادعاءات التلاحم الداخلي مع ولاية الفقيه، لا سيما حصول معظم النشاطات في العاصمة طهران، التي يفترض أن تشكل مركز ثقل النظام، فيما خسر نجاد فيها، مقابل موسوي، وفقا لاعتراف وزير الداخلية.

والملاحظ أن رفسنجاني لا يزال حريصا على الاحتفاظ بمواقعه الرسمية المهمة، فيما شارك أبناؤه في التظاهرات الاحتجاجية، مما يعطي انطباعا عن وجود رغبة وتخطيط لكسب المزيد من مراكز قوى النظام، لإضعاف قوة وكيان المرشد وتقليص صلاحياته غير المقيدة، أو تمهيدا لعزله بحركة تصحيح داخلية، وهي مهمة ليست هينة.

بمقارنة سريعة، فإن سقوط الشاه لم يكن بسبب قوة التيار الديني بل نتيجة رفض شعبي واسع، ركب الخميني موجته، فضلا عن تدهور صحته. وقبيل سقوطه بأسابيع قمت بجولة في طهران ومدن أخرى التقيت خلالها قادة في الجيش وكلهم موالون للشاه، وعندما عدت إلى بغداد حصلت الدولة على تقييم يشير إلى أن الشاه راحل. والآن، تعطي مراقبة الأحداث عبر وسائل الإعلام الحي حالة من التشابه الكبير، ولا أقول التطابق، بين الموقفين.

أما الحرس، المكلف بحماية نظام الخميني، فيمتلك قوة تقليدية، لكنها متخلفة مقارنة بقدرات جيش الشاه المتقدمة تقنيا. وبرغم انتشاره الواسع نسبيا، فإن سعة الأراضي الإيرانية والتوزيع الديموغرافي المتمايز يؤديان إلى تبعثره. كما أن الشعور بالخطر ومراجعة تجربة سقوط الشاه يقلصان قدرة التفاعل الإيجابي مع قرارات المرشد الذي وضع على المحك في أخطر أزمة واجهها منذ انتهاء الحرب مع العراق، التي ذاقوا خلالها مرارة السم، وليس كما وصف نهايتها بالنصر.

لا يمكن الجزم بنتيجة المجابهة الجارية، فقد يغلب عنف الدولة على تصميم الثورة البيضاء (مرحليا)، إلا أن ما حصل من تشقق في ضوء الظهور المذهل لقوى الديموقراطية لا يمكن أن يتلاشى تأثيره المستقبلي، حتى لو تراجع راكبو الموجة، وسيترك أثرا على سلوك الدولة وتشذيب الأفكار المتحجرة وتحجيمها، و«اجتثاثها» في نهاية المطاف، شاء المصفقون للمرشد من العرب أم أبوا.

وعندما تتاح فرصة ملائمة، وما دام المرشد أظهر انحيازا واضحا لمصلحة نجاد، وبعد خسارة الإصلاحيين حقهم في الطعن في نتائج الانتخابات لتخلفهم عن الحضور إلى مجلس الخبراء لعدم قناعتهم بجدوى إعادة فرز 10% من الأصوات، لا يستبعد تطور رسالة المحتجين والقيادات الحالية المعلنة لهم، لتشمل تدريجيا، تغيير النظام وإقامة نظام ديموقراطي حر، بعيدا عن التشدد، ولإلغاء عملية الربط بين الدين والسياسة وقيادة الدولة، التي لم تجلب لإيران والعالم غير المشاكل.

إنها فرصة مثالية للمجتمع الدولي لفهم الوضع الإيراني، والضغط على النظام القائم، بإظهار تأييد علني «قوي» لقوى التغيير الديموقراطي. فلا تضيّعوا فرصة تجنب العالم احتمالات مجابهة عسكرية وتوقف وجع الرأس النووي، وليكن من حق عليه القول عبرة.

[email protected]