كيف نتعامل مع نتنياهو؟!

TT

كان للخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في جامعة القاهرة، وربما زيارته إلى كل من السعودية ومصر في مجملها، تداعيات كثيرة، ربما كان أبرزها دفعها لحكومة إسرائيل ورئيسها بنيامين نتنياهو لاتخاذ موقف أظهره من خلال معهد بيجين - السادات بجامعة بار إيلان. وكان هذا الخطاب أبرز ردود الفعل، لأنه ولد نوعين من التعامل السياسى: أولهما أوروبي وأمريكي مرحب بما جاء في الخطاب؛ وثانيهما عربي رافض لما جاء فيه، بل إن بعضا من وسائل الإعلام العربية اعتبرته نهاية طريق التسوية، ومن ثم وجب العودة فورا إلى سبيل النضال المسلح. وربما كانت أول المكاسب الإسرائيلية من الخطاب هو ذلك الشرخ بين الموقف الأوروبي والأمريكي على جانب، والموقف العربي على جانب آخر؛ بل إنه من الجائز أن يكون ذلك هو القصد من الخطاب والطريقة التي جاء بها، وما احتواه من مواقف. فمنذ أن جاءت الإدارة الأمريكية الجديدة إلى السلطة تكون موقف جديد داخل الولايات المتحدة، كان موجودا مثيله بين الدول الأوروبية، ومؤداه أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي قد طال أكثر مما ينبغي، وأن الصراع بات يطول المصالح الغربية بالخطر، سواء عن طريق تنامي الإرهاب، أو نمو الراديكالية في الشرق الأوسط، والأخطر توجهها لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وأن المنطقة ومواردها وأسواقها باتت رهينة هذا الصراع.

ولذلك كله جرت سلسلة الضغوط الأمريكية على إسرائيل لكي توقف الاستيطان، وتقبل بحل الدولتين، وهو ما شجع الدول الأوروبية على اتخاذ نفس المسار. ولما كانت روسيا والصين والهند والدول الكبرى والصغرى كانت لها توجهات مشابهة، فإن إسرائيل ـ خاصة بعد انتخابها لحكومة نتنياهو اليمينية ـ باتت معرضة لعزلة عالمية كانت قد تصورت أنها تخلصت منها بعد تنامي الإرهاب والراديكالية الإسلامية في العموم. وهكذا، فإنه يحسب لنتنياهو أنه قرأ الخريطة العالمية جيدا، وكما يفعل كل السياسيين المهرة، فإنه لم يقف في وجه التيار، ولكنه عمد إلى صيغة إما أنها تفكك التلاقي العربي ـ الغربي ـ العالمي، أو أنها تقلل من الخسائر الإسرائيلية إلى أدنى حد، وربما تكسب إسرائيل بعضا أو كثيرا من الوقت، بعدها تتغير أحوال وأزمان، وأخيرا ـ وذلك جائز بشدة ـ أن العرب، كما هي العادة، سوف يتصرفون بالرفض والمزايدة، فتتخلص إسرائيل من كل الضغوط التي كانت واقعة عليها، وترفع عن حكومتها اليمينية العزلة العالمية.

ما فعله نتنياهو هو أنه قدم خطابا مختلطا، فمن ناحية فإنه سلم بقضية تريده دول العالم أن يسلم بها، وهي الاعتراف بدولتين لشعبين، أي الاعتراف بوجوب قيام دولة فلسطينية، ومثل ذلك سوف تكون له فوائد داخلية بالنسبة لشركائه من حزب العمل في الحكومة، وبالنسبة لـ61% يؤيدون مبدأ وجود دولة فلسطينية مستقلة مقابل 23% يرفضونها، ولكنه على الجانب الآخر قدم مجموعة طويلة من المطالب تقوم عمليا على استمرار الاستيطان تحت شعار «الزيادة الطبيعية»، الذي كان تاريخيا الاسم الكودي للتوسع الاستيطاني. وأضاف إلى ذلك مزيدا من التصلب في مواصفات الدولة الفلسطينية المنتظرة، والتشدد في مسألة القدس التي جعلها كلها موحدة، وأخيرا جعل الاعتراف الفلسطيني بالطبيعة اليهودية لإسرائيل، أو بكونها دولة للشعب اليهودي، شرطا أساسيا لإنشاء الدولة الفلسطينية.

هذا الخطاب ـ بطريقته هذه ـ جعل الدول الأوروبية والولايات المتحدة تركزان على مسألة الاعتراف بحل الدولتين، باعتبار ذلك تحولا استراتيجيا، ومن بعده كان غطاء تكتيكيا مفيدا في السياسة الداخلية، ولكنه في كل الأحوال يشكل حالة تفاوضية يكون فيها ما قال به نتنياهو نقطة بداية، وليس نقطة النهاية. ومن يريد أن يقرأ التاريخ، فإن عليه أن يراجع مواقف مناحيم بيجين فيما يخص المستوطنات والمطارات والأرض في سيناء، وما انتهي إليه الأمر في النهاية؛ وتاريخ الدول التي استقلت من العالم الثالث، وكيف بدأ الكثير منها بأحوال ناقصة السيادة، ومع الزمن تغير ذلك عندما تغيرت ظروف، وجاءت معطيات جديدة. وكانت النتيجة هي الترحيب بالخطاب، والدهشة من رد الفعل العربي المتعجل، الذي بدا كما لو كان الأمر الواقع الحالي، حيث لا دولة فلسطينية موجودة، ولا يوجد أفق ممكن لتوقف الاستيطان، وسواء أراد العرب أم لم يريدوا، فإن إسرائيل بالفعل هي دولة توجد فيها أغلبية من اليهود، وسوف يعملون على أن تظل كذلك.

الجانب العربي ـ دولا وحركات سياسية ومحطات إعلامية ـ كله رفض الخطاب، لأنه لم ينشغل كثيرا بالتغير الحادث حول قيام الدولة الفلسطينية، لأنها بدت دولة معقمة فاقدة لكل قواعد الخصوبة السياسية والاقتصادية؛ ولكنه انشغل أكثر باستمرار الاستيطان، وباعتبار الحديث عن «الدولة اليهودية» مقدمة لطرد العرب من إسرائيل. وباختصار، فإن الدول العربية اعتبرت أن الحديث عن الدولة الفلسطينية كان إشارة تكتيكية، هدفها شغل الدولة الغربية «بعظمة» دبلوماسية فاقدة للمضمون، بينما «اللحم» الاستراتيجي الحقيقي يقع في التوسع الاستيطاني، وفرض الدولة اليهودية على المنطقة، والمفاوضات حتى تجعلها مستحيلة. فالحقيقة هي أن تعريف الدولة لنفسها مسألة تخصها، ويوجد الصليب في كثير من أعلام الدول الأوروبية، حتى تلك المغرقة في علمانيتها، كما أن هناك «جمهورية إيران الإسلامية»، ويرد الوصف «الإسلامية» على دول أخرى، ولكن لم يسبق في تاريخ العلاقات الدولية أن طلب من دول أخرى ضرورة قبول هذا التعريف، حتى يكون لها حق الوجود.

الخلاف إذن جوهره تحديد ما هو استراتيجي، وما هو تكتيكي بالنسبة لإسرائيل في الخطاب، حيث تنعكس الآية بين العالمين الغربي والعربي، ولكن قضيتنا ينبغي لها ألا تكون تحديد ما هو استراتيجي وتكتيكي بالنسبة لنتنياهو، ومدى تماهي الدول الغربية مع هذا التحديد أو ذاك، وإنما تحديد ما هو استراتيجي أو تكتيكي بالنسبة لنا. ولا يقل عن ذلك أهمية تحديد مدى أهمية التأييد الأوروبي والأمريكي، ووضعه في إطار ما نريد تحقيقه من أهداف استراتيجية. ولذلك، فإنه لا ينبغي أبدا أن نترك نتنياهو يتلاعب بالموقف، بحيث يحصل على هذا الشرخ، ويفلت من الحصار الذي تكون منذ انتخابه. ولا يكون ذلك إطلاقا بالقبول بما يقوم به، وإنما بالاشتباك معه، حيث يكون ما يقول به لا يزيد أو يقل عن كونه موقفا تفاوضيا متشددا ينبغي معه الأخذ بيد الرجل للنزول من على الشجرة التي صعد إليها خطوة بعد خطوة، تماما كما حدث من بيجين قبل وبعد مفاوضات كامب دافيد المصرية ـ الإسرائيلية، وما تلاها من معاهدة سلام وتحكيم فيما خص طابا المصرية.

معنى ذلك أن علينا التعامل مع خطاب نتنياهو ليس فقط باعتباره ليس الكلمة الأخيرة، وإنما باعتباره نقطة انطلاق هامة بالنسبة للهدف الاستراتيجي العربي، وهو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة الخالية من الاستيطان الصهيوني وعاصمتها القدس الشرقية، والخالية من الاستيطان أيضا. وما عدا ذلك من أمور، فإنه أولا لا يجب أن يكون مناقضا للهدف الاستراتيجي، فلا تجتمع الدولة المستقلة مع المستوطنات في جوف دولة واحدة؛ ولا يوجد في التاريخ الإنساني ما يدفع دولة إلى الاعتراف بتعريف دولة أخرى لنفسها، وما يهم في الموضوع هو أن يحصل المواطنون العرب في دولة إسرائيل على حقوق المواطنة الكاملة، بحيث تكون محاولة الطرد الجماعي لهم ـ باعتبارها جرائم ضد الإنسانية ـ تستدعي تدخل المجتمع الدولي.

هذا التعامل مع خطاب نتنياهو، الذي يأخذ ما يهم استراتيجيا، ويشتبك مع ما هو مرفوض وسلبي في الأمور الأخرى، سوف يختلف كثيرا عن حالة الرفض الشاملة التي تعطي الدول الأوروبية وأمريكا أوباما إلى إسرائيل على طبق من فضة، كما أنه سوف يعطي المؤيدين للحق الفلسطيني في الدولة دافعا إضافيا للتعامل مع هذا الحق بطريقة أكثر فاعلية وعملية. ولا يقل أهمية عن ذلك أنه سوف يضع قضية الاستيطان في قلب الموضوع الأصلي الخاص بالدولة، كما أنه سوف يجعل موضوع الدولة اليهودية قضية من قضايا حقوق الإنسان من الدرجة الأولى، وهو ما يعطي القضية الفلسطينية قدرا أكبر من التأييد والتعاطف. وباختصار، فإن أسوأ ما نفعله هو أن نتصرف بالطريقة التي يريد لنا نتنياهو أن نتصرف بها!.