إيران: المعارضة تحولت إلى بركان

TT

اللافت في خطبة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي، يوم الجمعة الماضي، عندما أمر بمنع التظاهرات، محملا مير حسين موسوي مسؤولية الدم الذي سيهرق، أنه كان كمن يقول: أنا سأقتل وأنت ستنال العقاب!

وبالفعل سقط، حسب التقارير الرسمية، يوم السبت الماضي 10 قتلى. الوحيد الذي خرج من الزعماء المعتدلين (يوم الأحد الماضي) كان الرئيس السابق محمد خاتمي، أما البقية فتواروا. كان خامنئي صريحا، فهو على رأس نظام ديكتاتوري لا يتردد عن قتل مواطنيه. وكان المخاطرون بحياتهم من المتظاهرين أكثر صراحة وتحديا عندما ردوا عليه: «ليسقط الديكتاتور» «ليسقط خامنئي». لم يهتفوا «لتسقط أميركا».

أركان النظام من متشددين وإصلاحيين في صدام للحفاظ على هذا النظام، شرط أن يحصل الفريق المنتصر على حصته. أما الشعب الإيراني فإنه يقاتل من أجل الحرية والديموقراطية وحياة اقتصادية أفضل. هو ليس ضد الجمهورية الإسلامية، هو ضد محمود أحمدي نجاد.

قالت لي صديقة إيرانية شاركت يوم السبت الماضي في تظاهرة أمام السفارة الإيرانية في لندن، وتتلقى الرسائل والصور من داخل إيران وتوزعها على الإيرانيين في بريطانيا: «لقد فتح عدد من السفارات الأجنبية في طهران أبوابها لاستقبال الجرحى من المتظاهرين، فلماذا لم تُقدِم أي سفارة عربية على مثل هذه الخطوة؟».

الإيرانيون المناوئون للنظام في الخارج، توقعوا مواقف من كافة دول العالم، القضية بالنسبة إليهم، مصيرهم ومصير عوائلهم، لكنها بالنسبة إلى الدول أبعد من ذلك بكثير.

وتوقع المتظاهرون في إيران تحركا علنيا من علي أكبر رفسنجاني، لأن لديه كل ما يلزم من قوة لمواجهة المرشد الأعلى، لو أراد. لكن العارفين بحقيقة رفسنجاني أدركوا أنه لن يقطع مع خامنئي، فمن يتحدى رؤيته لشكل الدولة وممارساتها نخبة سياسية جديدة من الراديكاليين الشباب يقودها أحمدي نجاد.

تتطلع أغلبية الإيرانيين في الخارج، إلى أميركا والغرب لاتخاذ موقف حاسم يدافع على الأقل عن المتظاهرين في الداخل، لكن هذه الأميركا، وهذا الغرب، لم يحرك أي منهما ساكنا لإنقاذ زعيمة الديموقراطية في بورما آن سان سوتشي التي وضعت في الإقامة الجبرية قبل 13 سنة بعد فوز حزبها في الانتخابات، والآن تقبع في السجن. فهل يتحرك للدفاع عن 70 مليونا؟

الضغط على بورما لم يحدث إلا شفهيا، لعلاقات تلك الدولة بالصين وروسيا. بالنسبة إلى إيران، بعد «انتفاضة» نتائج الانتخابات الرئاسية، فإن موقف الصين وروسيا حُسم فورا لمصلحة أحمدي نجاد، ومع القمع الذي لجأ إليه نظام طهران صار هناك نوع من الاقتناع في واشنطن بأن عليهم الاستعداد للتعامل، ولمدة أربع سنوات أخرى، مع أحمدي نجاد.

وكان اللافت يوم الاثنين رد واشنطن وطهران على قمة الدول الصناعية النهائي التي ستُعقد في السادس والعشرين من الجاري في مدينة تريستي في إيطاليا، إذ لم تجب طهران على الدعوة التي وجهتها إليها روما وكان المفروض أن يصل ردها مساء الاثنين وإلا تُعتبر بأنها ترفض، كما أن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون اعتذرت هي الأخرى عن حضور القمة بداعي يدها المكسورة، مما يعني أن الدولتين تتجنبان أي مواجهة حاليا، ولو عبر طاولة الاجتماع، قبل أن يستقر الوضع في إيران. ويعني هذا بالتالي، أن إدارة الرئيس باراك أوباما تريد أن تبقي خطا مفتوحا على إيران. أما في إيران فليس الصراع ما بين الجيد والسيئ، بل ما بين السيئين ومن هم أسوأ منهم.

ليس موسوي سوى رجل الواجهة الدمث الذي «تبنّاه» رجال الدين الذين يشعرون بخوف من أربع سنوات أخرى من حكم أحمدي نجاد، مما قد ينسف كل مصالحهم. وكان أحمدي نجاد بدأ فعلا بتحييد رجال الدين عن مراكز السلطة ومصادر الثروات الإيرانية الاقتصادية وبالذات النفط. إذ صارت عائداتها تصب في مصلحة «الحرس الثوري».

إن الصراع ما بين رجال الدين المتحالفين مع تجار البازار والآخرين يعود إلى بداية الثورة عام 1979. في الحقيقة كان «الفدائيون» من حزب «توده» الشيوعي أول من أطلق الثورة في وجه الشاه، لكن رجال الدين انقضوا على القيادة، وقضوا ولاحقوا أفراد حزب «توده»، والأحزاب الأخرى، وسيطروا، ثم قام بعض أتباعهم باقتحام السفارة الأميركية من دون معرفة آية الله الخميني. بالمناسبة هذا الأسلوب نقله «الحرس الثوري» إلى «حزب الله» في لبنان، الذي قضى على كل المقاومين من الأحزاب اللبنانية الأخرى، ليسيطر هو على المقاومة، ويتبنى الخط المعادي لأميركا.

الإمام الخميني الذي كان يتوجس من رجال الدين الإيرانيين أوجد «الحرس الثوري» كقوة مستقلة ليضمن بأن الملالي لا يخطفون الثورة. لكن، كانت أول «مؤامرة» شهدتها الثورة تلك التي خطط لها رفسنجاني وحجة الإسلام بهشتي ومحمد رجائي، فأطاحت بالرئيس العلماني أبو الحسن بني صدر، ومنذ ذلك الحين تحولت إيران إلى دولة الحزب الواحد المتسلط (بعدها قُتل بهشتي ولحقه رجائي الذي خلف بني صدر كرئيس للجمهورية). وكان الخميني دائما يتبنى هذه العمليات، كما في حادثة السفارة الأميركية والإطاحة ببني صدر.

اليوم، وبعد ثلاثين سنة، صارت الحصص المتنازع عليها أكبر. والصراع الحقيقي هو على مبالغ ضخمة من الأموال. إذ أن «الحرس الثوري» يسيطر على نصف العائدات التجارية، ويتحكم بثلث الاقتصاد، ويقاتل قادة الحرس دائما من أجل الحصول على مبالغ أكثر من الميزانية المحددة، وذلك لتمويل عملياتهم داخل إيران وخراجها.

الإصلاحيون قدروا أن عائدات النفط المختفية زمن أحمدي نجاد تصل إلى 46 مليار دولار. ووحدهم قادة الحرس يدركون معنى السماح لمجموعة خارجية بالسيطرة على الحكم والتحقيق في كل ما جرى.

خلال المناقشات الرئاسية، هاجم موسوي أحمدي نجاد لأنه أعطى الأفضلية للقضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية مثل فلسطين ولبنان على المصالح الوطنية الإيرانية. لو نجح موسوي لسبب مشكلات ضخمة لـ«الحرس الثوري». ويوم السبت 13 الجاري، أي ثاني يوم في الانتخابات، أبلغ قادة الحرس الشباب الإيراني: أن «فترة الفرح والرقص انتهت». وبعد خطبة خامنئي، تسلم «الحرس الثوري» كل منافذ المدن الكبرى، وأرسلوا عناصر «الباسيج» لملاحقة الشباب حتى بيوتهم.

لكن هذا كله، لا يعني أن رفسنجاني يقاتل للقضاء على الفساد المستشري في إيران. عندما استقبل خامنئي المرشحين الثلاثة الذين «لم يفوزوا» في الانتخابات الأخيرة، ذكّر موسوي بسنوات «عذاباته» مع رفسنجاني، عندما كان رئيسا للبرلمان الإيراني في أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، كم مرة تجاوزه وقلل من أهميته، رغم أنه كان يحظى بدعم الخميني. وكم مرة أحرجه في المجلس، وحرك الأعضاء ضده. رفسنجاني كان يريد اقتصادا يدعم تجار البازار، لأنه بذلك يصب في مصلحة أفراد عائلته ومصالح عدد كبير من رجال الدين المتحالفين معه. لكن موسوي أصر على تحكم الدولة بالاقتصاد، لأن هذا يتماشى مع مبادئ الثورة وتمنيات الخميني. بعد الحرب اقترح رفسنجاني أن تخفف إيران من مبادئها الثورية، وتقبل مساعدات الغرب لإعادة البناء. ورفض موسوي ذلك. والمعروف أن عائلة رفسنجاني جمعت ثروتها في البداية من تصدير المنتوجات الإيرانية إلى أميركا، كالفستق الحلبي والسجاد. وعندما أصبح رفسنجاني رئيسا لم يكن لغضبه على موسوي من حدود، فدفعه إلى المنفى السياسي الداخلي الذي استمر عشرين عاما.

عندما كان موسوي رئيسا للوزراء كان يتمتع بسمعة يحسده عليها كل المتشددين، وكان المجتمع الدولي ينظر إليه كنظرته إلى أحمدي نجاد اليوم.

الصراع الحالي في إيران كشف عن «انقسامات» على أعلى المستويات، بسببه تلقّت الديموقراطية الإسلامية التي كان يريدها خاتمي، ضربة قوية. رجال الدين انقسموا، بعضهم يدعم أحمدي نجاد وخامنئي والخط المتشدد، وبعض آيات الله مع المعارضة، لكن هناك عددا كبيرا من آيات الله التقليديين غير المسيسين لم يعبّروا بعد عن مواقفهم. خامنئي ذهب بعيدا جدا في دعمه لأحمدي نجاد، وأي فشل سيقع به أحمدي نجاد سيُنسب إلى خامنئي لاحقا. أسقط خامنئي عنه صفة المرشد الأعلى، صار طرفا، وبهذا أُنزل من مرتبة حكم الأئمة في إيران.

ما قام به الشباب الإيراني بمثابة انتفاضة ستتحول إلى حركة مدنية، وستستمر، ولا بد أن تحدث حركة تصحيحية كبيرة في الثورة. عند بدء الثورة، كان جنوب طهران فقيرا وشمالها ثريا، بعد ثلاثين عاما، ظل جنوبها فقيرا ولم يعد شمالها ثريا. وهذا أكبر فشل داخلي للثورة.

قد ينجح القمع والقتل لفترة محدودة، لكن كما يقول المثل الفارسي: «إذا دفعت بالنار تحت الرماد فإن بركانا سيتكون ليثور لاحقا». وقالت لي صديقتي الإيرانية: «لا تقلقي على الشباب الإيراني، إننا شعب مقاتل، والقيادة الحالية بكل جبروتها كالواقف على بركة من الصقيع، وقد بدأ الصقيع يتصدع. لم يكن للمعارضة زعيم، وصارت صورة ندى سلطان هي رمزنا». إيران لن تبقى كما هي، والأصوات في صناديق الاقتراع لن تستطيع القيادة التخلص منها، ستتحول إلى البركان الذي بدأ يتكون ليثور قريبا.