أحداث إيران.. نهاية حكم المعممين بعد تجربة فاشلة

TT

شيء طبيعي وغير مستغرب أن تثير أحداث إيران، التي هزت العالم أكثر مما هزته الثورة «البولشفية» التي كانت سبقت الثورة الإيرانية باثنين وستين عاما، كل هذه الضجة إن في المنطقة العربية وإن في الكون كله، فهذه الدولة، بتاريخها وحاضرها ومستقبلها، الذي سيكون مزدهرا بالتأكيد، ليست مارقة ولا عابرة بل هي أساسية ورئيسية وما يجري فيها يهم العرب والمسلمين كلهم ومعهم بالطبع كل دول الكرة الأرضية التي في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين والهند وروسيا.. والعدو والصديق.

معظم ما قيل بعد انفجار هذه الانتفاضة، التي لا يمكن أن يصدق حتى أصحاب أنصاف العقول أنها صناعة خارجية وأن المخابرات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية هي التي أشعلتها، صحيح وهو يأتي في صلب سياق الأحداث التي جاءت بعد تراكمات ثلاثين عاما والتي وصلت إلى لحظتها التاريخية في ضوء اغتصاب صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة والتجديد للرئيس محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية مــن خلال عملية سطو في وضح النهار «وعلى عينك يا تاجر».

صحيح أن كيل الإيرانيين قد طفح بعد أربع سنوات عجاف من حكم محمود أحمدي الذي أدخل إيران في عزلة لا تشبهها حتى العزلة التي فرضت على روسيا بعد الثورة «البولشفية» وعلى نظام فيدل كاسترو بعد انتصار الثورة الكوبية، وصحيح أن الشعب الإيراني بأجياله الجديدة التي تتطلع إلى حاضر مزدهر وإلى غد مشرق قد «قَرِفَ» الأوضاع التي بقي يعيشها لثلاثين عاما هي عمر الثورة الخمينية وقد مل الحروب ولم يعد يطيق الأوضاع التي يعيشها فانفجر كل هذا الانفجار الهائل الذي يشبه انفجاره في فبراير (شباط) عام 1979 والذي إن هو لم يحقق أهدافه الآن وخلال هذه الفترة فإنه بالتأكيد سيحقق هذه الأهداف خلال فترة لاحقة لن تكون بعيدة.

لكن يبقى أن هناك أمرا لا بد من الإشارة إليه والوقوف عنده وهو أن إيران بعد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي عاشت حالة جدل صاخب شهدته الحوزات العلمية والجامعات والميادين العامة وشارك فيه المعممون على مستوى آيات الله العظمى ودون ذلك والمثقفون والطلاب وتجار «البازار»، الذين كان دورهم رئيسيا ولا يزال رئيسيا حتى الآن، حول ما إذا كان الأفضل والأصلح للثورة وللبلاد والعباد أن يُسلم النظام الجديد لرجال الدين أم يُترك لهؤلاء دور المراقبة والتوجيه ويعطى الحكم للهيئات المدنية والأحزاب السياسية وللكفاءات الإدارية وللمثقفين والذين تأهلوا وتخرجوا من الجامعات والمعاهد الغربية وليس من الحسينيات والمساجد.

كان هناك رأيان رأي يصر، بحجة الحفاظ على الثورة لتبقى ثورة دائمة، وتصديرها إلى الدول الإسلامية القريبة والبعيدة، وفي مقدمتها الدول العربية بالطبع، على أن المعممين هم الأولى بالحكم لأن الثورة ثورتهم، بينما يقول الرأي الآخر إن الأفضل هو إبعاد رجال الدين، حتى بما في ذلك الإمام الخميني نفسه ومعه المرجعيات الكبرى، عن السلطة نهائيا ليبقوا وكأنهم في موقع المعارضة يراقبون سير الأمور بحيادية بعيدة عن المصالح الخاصة ويصححون الأخطاء عندما تقع ويكفون يد المسيء عندما تقتضي الأمور ذلك بدون أي خضات وبعيدا عن القوة وبالأساليب والوسائل السلمية.

لكن ومع أن في الاتجاه الذي دعا إلى إبعاد رجال الدين عن الحكم والمناصب وتركهم للتفرغ لشؤون الدين والشؤون العامة وللرقابة على سير الأمور في الدولة والنظام، بعض رجال الدين والمرجعيات العليا إلا أن شهوة الحكم قد دفعت غالبية المعممين من مقلدي الإمام الخميني وأتباعه إلى الاستماتة لتغليب وجهة نظرهم على وجهة النظر الأخرى وهذا أدى إلى أن تكون هناك عمليات تصفيات وإقصاءات منذ الأيام الأولى وحتى قبل أن تحسم الأمور بصورة نهائية بعد عودة «قائد الثورة» من منفاه الأخير في فرنسا بفترة قصيرة.

لم يأخذ الذين استبدت بهم شهوة الحكم بذلك المبدأ القائل، الذي بقي سائدا بالنسبة للشيعة من أتباع المذهب الجعفري الاثني عشري حتى ظهور نظرية «الولي الفقيه» في عهد إسماعيل الصفوي، أنه على أتباع هذا المذهب أن يبتعدوا عن مزاولة الحكم مباشرة وأن يمتنعوا عن إقامة دولتهم قبل عودة إمام الزمان الغائب الذي هو محمد (المهدي) بن الحسن العسكري «الذي سيعود ليملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا وظلما».

وقد رد هؤلاء على محاججيهم الذين كانوا ينادون بضرورة إبعاد المعممين عن الحكم وإقامة دولة على أساس نظام الحكم المدني التعددي الديموقراطي بأن ساندوا الإمام الخميني، الذي كان مترددا وحائرا في البدايات، للأخذ بمبدأ ولاية الفقيه واعتماده في الثورة وحكمها ونظامها وتنصيب نفسه أول ولي فقيه منذ زوال الدولة الصفوية وحتى انتصار هذه الثورة على نظام محمد رضا شاه في فبراير (شباط) عام 1979.

وهكذا وبدل أن يكون النظام الجديد نظاما مدنيا وتعدديا وديموقراطيا تشارك فيه كل القوى التي عارضت حكم عائلة بهلوي ومن بينها المستقلون من المعممين والتيارات الليبرالية والديموقراطية وممثلو «البازار» الذين كانوا وما زالوا يشكلون القوة الرئيسية الاقتصادية في البلاد ورموز الاتجاهات المدنية المثقفة والمنفتحة على الغرب والمتأثرة بحضارته وثقافته، بالإضافة إلى جماعة مجاهدي خلق وجماعة فدائيي خلق والحزب الشيوعي الإيراني (تودة) وبعض التشكيلات القومية الصغيرة، فقد أصبح نظام المعممين ورجال الدين الذين هم في حقيقة الأمر يتقنون فنون الهدم وليس لهم أي معرفة ببناء الدولة المتقدمة الحديثة.

وكل هذا أدى إلى تصفيات مبكرة بدأت بالتشكيلات والأحزاب والقوى، التي رأت أن الثورة قد انحرفت عن خط سيرها منذ اللحظة الأولى وأن شهوة الحكم قد دفعت المعممين و«الملالي» إلى اختطاف هذه الثورة وإبعادها عن هدفها الذي انطلقت من أجله، ومن بينها بالطبع جماعة مجاهدي خلق والحزب الشيوعي الإيراني (تودة) وجماعة فدائيي خلق وبعض التيارات الماوية والقومية العربية والكردية، ثم انتقلت إلى الرموز الليبرالية المثقفة مثل مهدي بازركان وإبراهيم يزدي وكريم سنجابي وصادق قطب زاده وغيرهم كثيرين.

وبالطبع فإن حملة التصفيات المبكرة هذه قد شملت لاحقا بعض المرجعيات الكبرى التي ترفض نظرية ولاية الفقيه والتي تأخذ بنظرية أن للأمة وحدها الولاية على نفسها من خلال الديموقراطية والانتخابات، ومن بين هؤلاء آية الله العظمى حسين علي منتظري الذي كان هو في حقيقة الأمر القائد الميداني للثورة الخمينية عندما كان ملهمها وقائدها روح الله الموسوي الخميني منفيا أولا في تركيا ثم في النجف الأشرف في العراق ثم مرورا في الكويت ومنها إلى فرنسا، حيث عاد عودة الأبطال إلى طهران في فبراير (شباط) عام 1979.

لقد بقيت المرجعية الدينية في «قُم» كما هي في النجف الأشرف مستقلة عن أنظمة الحكم في إيران وفي العراق، وتلعب دورا رئيسيا في توجيه المعارضة المذهبية والقوى المتحالفة معها والقريبة منها إلى أن حُسم صراع مرحلة بدايات الثورة الإسلامية لمصلحة الخميني ومجموعاته وأتباعه عندها جرى تهميش المعارضين وأصحاب الآراء الفقهية والسياسية المخالفة وإبعادهم، تمهيدا لمصادرة مرجعية «قُم» وتحويلها إلى مجرد برغ في «الماكينة» الخمينية الكبيرة.

ولهذا، وبناء على تجربة حكم المعممين المرة التي استمرت ثلاثين عاما فقد جاءت الانتخابات الرئاسية لتفجر قنبلة موقوتة كان لا بد من أن تنفجر بعد أن تحول هذا الحكم إلى أبشع صور الديكتاتوريات التي عرفها التاريخ وبعد أن نفذ صبر الشعب الإيراني وبات غير قادر على الاحتمال أكثر مما احتمل، وهنا فإن مما زاد الأمور احتقانا هو تردي الأوضاع الاقتصادية وهو أن سنوات رئاسة محمود أحمدي نجاد الماضية قد حولت إيران إلى دولة مارقة معزولة وفقيرة ولها مشاكل مستحكمة مع معظم دول الجوار ومعظم دول الكرة الأرضية.

لقد سقطت تجربة حكم رجال الدين وفشلت فشلا ذريعا ولقد أظهرت الثلاثين سنة الماضية كل سوءات وعيوب ولاية الفقيه وهذا معناه أنه حتى وإن تحققت تسوية «ما» في لحظة من اللحظات تبقى الأمور على ما هي عليه مع بعض المساحيق والرتوش التجميلية، فإن الفراق حاصل لا محالة وإن نهاية هذه التجربة المـُكْلفة البائسة الطويلة ستكون تحصيل حاصل إن ليس خلال هذا العام أو العام الذي بعده فعلى المدى المنظور وخلال فترة قريبة.