الحدث الإيراني والعالم الخارجي

TT

يمكن القول إنّ الجميع في الخارج فوجئوا بالأحداث التي تلت يوم الانتخابات الرئاسية في إيران. فحتى المنظمة المعارضة، منظمة مجاهدي خَلْق، كانت قد أصدرت بياناً ذهبت فيه إلى أنّ هذه الانتخابات مثل سابقاتها منذ قيام الثورة، تُمثّلُ تزويراً لإرادة الشعب. والمعروف أنّ وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، بادرتْ ومنذ اليوم الثاني للانتخابات – بعد بدء التضييق على مراسلي الصحف ووكالات الأنباء ـ إلى اتّهام القوى الأجنبية، وعلى رأسِها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، بالتدخل في شؤون البلاد من أجل نشر الاضطراب وزعزعة السلطة الإسلامية فيها. ولمن لا يعرف لماذا خصّت السلطات ووسائل الإعلام دُوَلا دون أُخرى بالاتّهام، ينبغي التنبيه إلى أنّ نصف الدول الأوروبية تقريباً ليست لديها بعثات دبلوماسية معتبرة في طهران. كما أنّ الصحف والتلفزيونات الأوروبية والأميركية، التي لها مراسلون ومتابعات بإيران، معدودة. وفي الحالتين: البعثة الدبلوماسية، ووسائل الإعلام؛ فإنّ بريطانيا تأتي في الطليعة. إذ لديها بعثةٌ دبلوماسيةٌ كبيرة، ولوسائل إعلامها مثل الـ BBC قسمٌ فارسي شهير يُذيع بالفارسية يومياً لعدة ساعات. ولا شكَّ أنّ الدبلوماسيين البريطانيين، كما مراسلو الـ BBC سارعوا إلى إرسال تقاريرهم السرية والعلنية؛ فأثار ذلك السلطات الإيرانية، ودفع ذلك وزير الخارجية متّكي إلى اختصاص بريطانيا بهجومٍ لاذع، ثم كان أن طُرد دبلوماسيان بريطانيان، وسارعت لندن إلى إجراءٍ مُماثل. أما فرنسا فلا يعود الهجومُ الإيراني عليها إلى بياناتها القوية ضدَّ ما حصل ويحصُلُ من قمعٍ للمتظاهرين وحسْب؛ بل وإلى النشاط الظاهر لمُحازبي منظمة مجاهدي خَلْق فيها، والذين نَظّموا تظاهُرةً ومسيرةً بباريس خطبت فيها مريم رجوي الرئيسة الاسمية لمنظمة المجاهدين تلك. كانت أكثر التقارير الأجنبية التي نُشرت في الأسبوع السابق على الانتخابات تتوقَّعُ أن لا يُحْسَم الأمر من الدورة الأولى، وأن تحصُلَ دورةٌ ثانيةٌ يفوزُ فيها نجاد في الغالب. وحدثَ أَنْ فاز نجاد بهذه الأكثرية الكاسحة (أكثر من 63%)، فكانت تلك هي المفاجأة الأولى. أمّا المفاجأةُ الثانيةُ للأوروبيين والأميركيين فكانت التظاهُرات الضخمةُ التي اندلعت احتجاجاً على نتائج الانتخابات، والتي واجهها الحرسُ الثوري بعنفٍ ظاهر. ويبدو أنّ أمن الحرس كان يتوقّع أنّ يكونَ الطلاّب هم عماد التظاهرات؛ ولذلك فقد أغاروا على مهاجع الطلبة بجامعة طهران، وهم يتذكرون ما حصل عام 2003 حين انفرد الطلاب ـ دون الفئات الأُخرى ـ بالتظاهُر والاعتصام.

على أنّ الأوروبيين الكبار مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، والذين سارعوا لإصدار بيانات الاستنكار لعنف السلطة الإيرانية، والتشكيك في حقيقة التصويت في الانتخابات، استنادا إلى تقارير دبلوماسييهم وسفاراتهم في طهران، أرادوا إعطاء انطباع أنهم كانوا يتوقعون ما حصل؛ وذلك بخلاف الولايات المتحدة، التي أظهرت ارتباكا وتردُّدا، بدا في تصريحات الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. والغالب أنّ ذلك لا يرجع إلى قلة المعلومات والتقارير بسبب عدم وجود سفارة أميركية بطهران؛ بل إلى ما كانت الولاياتُ المتحدةُ تُعِدُّ نفسها له من حوارٍ مع إيران، وانفتاحٍ غير محدود على المفاوضات معها بعد الانتخابات. وعندما حدثَ ما حدثَ من تظاهُرٍ واضطرابٍ وعنف، ولأنّ الولايات المتحدة «صوفتها حمراء» كما يقول اللبنانيون؛ ولأنّ أحداً ما قال بتصدُّع النظام، سارع الرئيس أوباما إلى إظهار حيادية قوية، واعتبر الأحداث شأناً داخلياً، وجدَّد الدعوة للتفاوُض عندما تستقرُّ الأَوضاع. وتمنى أخيراً أن يكون النظام صادقاً مع شعبه! وأخذ عليه ذلك بعضُ الجمهوريين والمحافظين الجُدُد، كما أَخذ عليه ذلك أكثر شباب الجالية الإيرانية الكبيرة بالولايات المتحدة.

وما دُمنا في سياق استعراض ردود الفعل الخارجية على الحَدَث الإيراني؛ فيحْسُنُ القولُ إنه في العالمين العربي والإسلامي؛ اتخذت وسائلُ الإعلام الخاصّة مواقف مؤيّدة أو مُعارضة للمتظاهرين، أمّا الجهاتُ الرسميةُ فإنها آثرت الصَمْت بشكلٍ عام. إنما لماذا كانت المفاجأة لدى العالم الخارجي بما حدث في إيران؟ ثم لماذا بدت ردود الفعل حتّى المستنِكرة كأنما جاءت رفعاً للعَتَب؟ جاءت المفاجأةُ من الانطباع السائد في العالَم أنّ النظام القائم بالجمهورية الإسلامية يحظى بدعم السواد الأعظم من شعبه، وأنّ الأُمورَ هناك ممسوكةٌ تماماً من الناحية الأمنية. وصحيحٌ أنّ المجتمع الدولي (وعلى رأسه الولايات المتحدة) لديه مشكلاتٌ كبيرةٌ مع إيران؛ لكنْ ما دام العهد الأميركي الجديد يقول بالتفاوُض إلى الحدود القُصْوى، والروس والصينيون لا مصلحة لهم بالاشتباك مع إيران حتّى على النووي؛ فلا بُدَّ من التسليم للنظام القائم من أجل كسْبه للتفاوض وحلّ المشكلات. ولا تزال الصحف الأميركية تُردّد حتى اليوم أنّ ذاك النظام يسلك دائماً سلوكَ أو سياسة حافة الهاوية، لكنه ليس مجنوناً، ويمكن الوصول إلى صفقةٍ معه، كما حصل من قبل في عدة مناسباتٍ، ومنها قصة «إيران ـ كونترا» في الثمانينات، ومنها غزو أفغانستان والعراق، ومنها التوصل مع النظام لإيقاف التخصيب أيام خاتمي. وما كان أحدٌ من المُراقبين الغربيين يذكر مير حسين موسوي. وقد تابعْتُ نقاشاً مستغرباً بين مسؤولٍ أوروبي وصحافي بارز عندما عرض خاتمي أن لا يترشح إذا قرر الموسوي الترشُّح. إذ لم يكن أحدٌ يألف نجاداً أو بقاءه، لكنهم كانوا يعتبرون أنّ المرشَّح الذي يمكن أن يخلِّصَهُم من نجاد: رفسنجاني أولا أو خاتمي ثانياً، وليس رجلا خرج من السلطة منذ أواخر الثمانينات!.

وهكذا فإنه لا أحد في العالَم الغربي عنده وهمٌ في إمكان التأثير بالداخل الإيراني. وهم يعتبرون ـ وبخاصةٍ الأميركيون ـ أنّ كلَّ المرشحين سواء؛ لكنّ منهم من يستخدم «القوة الناعمة» مثلما كان خاتمي مع رؤساء الدول، ومثلما كان لاريجاني في المفاوضات بشأن النووي. كما أنّ بينهم من يستخدم «القوة الغاشمة» مثلما يفعل نجاد. بيد أنّ النقاش في وسائل الإعلام الغربية الآن يتخذ مساراتٍ أُخرى وغير متوقَّعة. إذ هناك ميلٌ للذهاب إلى أنّ موقع إيران التفاوُضي ضَعُفَ أياً يكن الرئيس، ما دام 30% أو أكثر من الشعب، ما عادوا يؤيّدون النظام، وهم مستعدون لمواجهته في الشارع الذي ظل يسيطر عليه لحوالي الثلاثين عاماً. وهناك مَنْ يذهب إلى أنّ الأُمور لا تؤْخَذُ على إطلاقها. بل لا بد من تأمُّل الملفّات واحداً بعد آخَر. فللمجتمع الدولي مع إيران اليومَ مشكلتان كبيرتان: النووي، والامتدادات فيما بين أفغانستان وأذربيجان وفلسطين ولبنان. أما الأوروبيون فاهتمامُهُمُ الأول البرنامج النووي الإيراني، والقوة الصاروخية الإيرانية. في حين يهتمُّ الأميركيون والعرب بكلا الملفَّين. وقد ساد حتى وقتٍ قريبٍ انطباعٌ مؤدَّاه أنّ إيران تستخدم الامتدادات ومناطق النفوذ، للإيصال إلى مبادلة ذلك بتنازُلاتٍ في الشأن النووي والصاروخي. ومرةً أُخرى فإنّ إيران ما كانت في يومٍ من الأيام تحصيل حاصل حتى في عهد الشاه. ويعودُ ذلك للموقع الاستراتيجي، وللثروات النفطية والغازية الكبرى. لكنْ رغم كلّ الصعوبات منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979؛ فإنّ السنوات الأربع الماضية، كانت الأصعَب في علاقاتها الدولية، ليس بسبب نجاد بالذات (ومن ورائه خامنئي)؛ بل لأنّ الجمهورية الإسلامية التي كانت تشعر بالحصار منذ زمن طويلٍ، انطلقت من عقالها وإسارها متجرِّئةً بهجمات الولايات المتحدة، وخروجها على كلّ القواعد؛ فانتشرت في كل مكانٍ وبشكلٍ مُثيرٍ وظاهر. والولاياتُ المتحدةُ تقولُ الآن إنها عادت للقواعد والأعراف، وهي تريد من الجميع الشيءَ نفسه وبالحوار والتلاؤم. ولكنْ مَنْ يُقْنعُ إيران الآن ـ بعد فترة الهياج تلك ـ أنّ هذا الأمر من حقِّها، وذاك ليس من حقِّها؟! وهذا في الواقع هو الهمُّ الأولُ للأوروبيين والأميركيين وليس حرية الشعب الإيراني، وحقّه في الحياة الرغدة والكريمة.

وهناك في النهاية موقفان طريفان من الأحداث الإيرانية يستحقان الذكر للاعتبار لا للتأثير: الموقف الروسي والصيني، وموقف أحد أُمراء الخليج العربي. أما الروس والصينيون ـ والذين تُهمهم الحريات والديمقراطية بالطبع ـ فقد اعتبروا الأُوروبيين والأميركيين منافقين، واعتبروا السلطة بإيران ممثِّلةً للإرادة الشعبية رغم الاحتجاجات القليلة الأثر! وأما الأمير العربي فقد اعتبر النظام الإيراني تعددياً وديمقراطياً وفيه تداوُلٌ سلمي للسلطة، أمّا دول المنطقة العربية، فأين هو التداول، وأين الانتخابات والديمقراطية؟!

وهكذا نرى أنّ هناك سوءَ فهمٍ للتطورات في إيران ومن الطرفين: طرف داعمي النظام، وطرف داعمي المتظاهرين. أمّا كلام الأمير الخليجي، فهو ولا شك كما يقول مَثَلٌ ألماني: تصفيقٌ من الجهة الغَلَط!.