دور (النفخ الخارجي).. في انتكاسة إصلاحيي إيران

TT

هل أدى (النفخ الخارجي( في أحداث إيران التي وقعت بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية.. هل أدى هذا النفخ إلى انتكاسة أو تراجع ما عرف بـ(التيار الإصلاحي) هناك؟

نعم.. أدى النفخ الخارجي في الأحداث إلى الانتكاسة أو التراجع؟

لماذا؟.. هذه منظومة أسباب يتعين التفطن لها:

1 ـ إن لدى الشعب الإيراني - بوجه عام - (حساسية مفرطة) تجاه التدخل الخارجي في شؤونه. ففي ذاكرته العامة، وذاكرته (التعليمية): أن بلاده تعرضت لاحتلالات عديدة: منها - على سبيل المثال - احتلالات: اليونان، والرومان، والمغول، والإنجليز، والروس.. وفي القرن العشرين، كما يقول وليم ساليفان آخر سفير أمريكي في طهران في عهد الشاه في كتابه: أمريكا وإيران: "بدأ النظام السوفيتي الجديد يعمل حثيثا على إشعال نار الثورة في الأقاليم الإيرانية الشمالية المجاورة له.. وبريطانيا التي فشلت في محاولة إدخال فارس تحت حمايتها الرسمية، تمكنت من السيطرة على اقتصاد البلاد بوضع يدها على منابع النفط في الأجزاء الجنوبية".. وبمناسبة النفط، فإن حركة محمد مصدق عام 1953 (وقد كان رئيسا لوزراء إيران يومئذ) كانت تستهدف تحرير النفط من السيطرة الأجنبية، بيد أن هذه الحركة أجهضت بتدخل أجنبي مباشر.

هذه ـ ونظائرها ـ ذكريات جعلت الإيرانيين - بوجه عام - ينفرون من التدخل الأجنبي في شؤونهم، وهي حالة وظفها الخميني في ثورته ضد الشاه حيث اتهمه بأنه (ألعوبة) في يد الأجانب، ولا سيما حين استغل قانون (خصوصية امتياز الأمريكيين) في إيران، واستثنائهم من الخضوع للقوانين العامة في البلاد.

لا ريب في أن العمل السياسي الماهر يدرج في حساباته مثل هذه العوامل وهو يتحرك وينشط، بيد أن النفخ الخارجي في أحداث إيران جهل هذه العوامل أو تجاهلها، ومن ثم تسبب في انتكاسة أو تراجع ما سمي بالتيار الإصلاحي.

2 ـ السبب الثاني في الانتكاسة أو التراجع هو: أن النفخ الخارجي: أظهر الإصلاحيين وكأنهم (أدوات) ـ مجرد أدوات ـ يحركها الإعلام السياسي الخارجي، بل ربما حرض هذا الإعلام قطاعات كبيرة من الشعب الإيراني على الاقتناع بما يلي: طالما أن الغرب المعادي لإيران دوما هو الذي يؤيد الإصلاحيين ويعمل على تمكينهم من السلطة، فإننا ينبغي أن نعي أن هؤلاء الإصلاحيين هم (عملاء) للغرب.. وإلا لماذا يتحمس لهم؟!!

ويظهر أن هناك قوى معينة في عالمنا هذا (غير متهمة بالذكاء على كل حال) تخصصت في تقديم خدمات سياسية (مجانية) لخصومها، وهي خدمات تتابعت وقائعها وتراكمت حتى كادت تشكل (ظاهرة): جديرة بالتأمل العميق، والدراسة المستفيضة:

أ - في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة: صوتت إدارة بوش وإسرائيل لصالح حماس «!!!»: صوتتا لحماس بالحملة المكثفة عليها، وصوتتا لحماس بالخذلان السياسي والاقتصادي لفتح، منذ أوسلو وحتى الانتخابات.

ب - خدمت إسرائيل حماس خدمة سياسية واستراتيجية بعدوانها على غزة، فبسبب هذه الحرب: انكسرت حدة الحصار (في هذه الصورة أو تلك)، وأصبحت حماس طرفا رئيسا في المفاوضات التي تقودها مصر.. يضاف إلى ذلك: الكسب السياسي والإعلامي الذي ظفرت به حماس في الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي.. وهاهو جيمي كارتر يحمل رسائل من إدارة أوباما قيل إنها تهدف إلى فتح حوار مع حماس.. وثمة نقاد استراتيجيون إسرائيليون كثر تحدثوا عن ذلك وانتقدوا قادتهم واتهموهم بالغباوة وقصر النظر.

ج - إن الضجة الخارجية حول اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير: أكسبت المستهدف شعبية كبيرة، وقدمت له دعما انتخابيا مبكرا هائلا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

د - كانت الدعاية الغربية المكشوفة للإصلاحيين في إيران: وراء هزيمتهم، وخدمة لأحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية الماضية، إذ ظهر مرشح الإصلاحيين - في مرآة تلك الدعاية - وكأنه (مرشح الغرب في إيران)، وكان هذا سببا في هزيمة المرشح الإصلاحي، وصعود نجم أحمدي نجاد!!

هـ - امتدح بنيامين نتنياهو الإصلاحيين في إيران، ووصف المحتجين والمتظاهرين بأنهم (أبطال شجعان) ومما لا ريب فيه: أن هذا المدح - من نتنياهو بالذات - تشويه لسمعة الإصلاحيين، وخدمة لخامنئي وأحمدي نجاد.

وإذا أتاك تمدّحي من شانئ فهي شهادة لي بأني ناقص.

ولعل الساسة والإعلام السياسي يأخذون العبرة من هذه الظاهرة في المستقبل.

وبخصوص (التدخل الأجنبي)، فإن إيران نفسها مدعوة - بوجه خاص - إلى أخذ العبرة الكبرى والصادقة في هذا المجال.

فإذا كان من حق الإيرانيين: أن يرفضوا التدخل الأجنبي في شؤونهم، فإن من حق الآخرين أن يرفضوا (التدخل الإيراني في شؤونهم): في أي صورة كان، وبأي أسلوب جرى، وذلك لنفس المنطق، ولذات السبب: منطق وسبب: أن الناس جميعا لا يحبون التدخل في شؤونهم الداخلية.

وليس من العدل ولا من العقل: أن تتوقع إيران من الآخرين: أن يقبلوا لأنفسهم: ما لا تقبله هي لنفسها.

ومن المتوقع: أن يكف الآخرون عن التدخل في شؤون إيران: إذا كفت هي عن التدخل في شؤون الآخرين، ذلك أن لكل فعل: رد فعل يوازيه في القدر، ويضاده في الاتجاه.

ومن المتوقع إذا تحقق هذا: أن ينفتح أفق جديد: كريم ومريح من العلاقات السوية النافعة.

وفتح هذا الأفق: يتطلب جهدين مركبين متكاملين:

أ ـ جهد إعمال العقل في الحراك السياسي: القولي والفعلي.

ب ـ وجهد النأي - ملايين الأميال - عن الحمق والاستفزاز وتكثير العداوات.

مثلا حين زعم كبير من كبرائهم: أن البحرين محافظة إيرانية أو جزء من جغرافية إيران، هل كان وراء هذا الزعم شيء آخر: غير الاستفزاز والحمق وتكثير العداوات؟..لا..لا..لا.. لم تكن هناك مصلحة قط في هذه التصريحات، بل هي محض حمق واستفزاز، بدليل: أن المنطق العقلي يرفض هذا الاستفزاز، يضاف إلى ذلك: التناقض التام مع القانون الدولي.. واستحالة تطبيقه من الناحية العملية.. ثم إنه تقليد لعدو إيران الإقليمي الأكبر - كما يقولون - وهو: صدام حسين: تقليد له في مزاعمه الباطلة بأن الكويت محافظة عراقية أو جزء من جغرافية العراق!!

صحيح أن إيران اعتذرت وتراجعت، لكن لماذا صدور هذا الكلام في الأصل؟

قد تحتمل الساحة الداخلية صراع الأجنحة، ولغات الاستفزاز، لكن حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، فإن العقل يتوجب أن يكون حاضرا دوما، وأن تكون الحسابات صحيحة: في الجمع والطرح والضرب والقسمة إلخ.

ونسمع - أحيانا - أصواتا من إيران تقول: إن من مخططات الأعداء: تشتيت الصف الإسلامي، وإثارة العداوة والبغضاء بين الأمة الإسلامية.

ولسنا نختلف معهم في أن هناك من يريد ذلك، ويخطط له: بهمة ومثابرة.

لكن أنجع سلوك لردع هذه المخططات هو: ألا يعينها أحد على بلوغ أهدافها بواسطة إثارة الخلافات بين المسلمين: في هذه الصورة أو تلك.

ومن قبل ومن بعد: لعل الأحداث التي وقعت في إيران تكون مناسبة لتعديل السياسة الخارجية الإيرانية على نحو يجعل إيران (دولة) تعمل بحسابات الدولة: لا بأيدلوجية الثورة.

وأول حسابات منطق الدولة: تجريدها من خيالات الأيدلوجية وصخبها ومراهقتها.