السرية والعلنية في اللجان التحقيقية

TT

رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون لا يزال يجني ثمار ما زرعه سابقه توني بلير. آخر مأزق صنعه براون بنفسه حول فضيحة المغالاة في المصاريف النثرية لا يزال عالقا بملابسه الممزقة من استقالة وزرائه بالجملة، ووجهه وجسمه يحملان كدمات ورضوض العلقة الساخنة التي تلقاها حزبه، العمال الجديد، في انتخابات البلديات المحلية.

اضطر للتراجع بعد الإصرار على إجراء التحقيق الاستفساري، عن ظروف ومناسبات حرب العراق وكيفية أداء الجيش، سرا وراء أبواب مغلقة مع عدم نشر التقرير إلا بعد الانتخابات القادمة.

هذه التحقيق أيضا جزء من تركة بلير كان وعد مجلس العموم بإجرائه فور سحب القوات البريطانية من العراق. بلير كان مطمئنا بأن التحقيق لن يبدأ إلا بعد خروجه من الوزارة (2007) لكن أتم الجنود مهمتهم، وهم على وشك مغادرة العراق في غضون أسابيع.

شفافية التحقيق مطلب أهالي الجنود، خاصة الذين فقدوا أبناء وأزواجا، ومطلب قادة الجيش، بمن فيهم رئيسا الأركان السابق والحالي. هاتان المجموعتان تتهمان الحكومة، وبالتحديد براون عندما كان وزيرا للمالية (1997 ـ 2007) برفض زيادة ميزانية الإنفاق العسكري بما يتناسب وحاجات حالة الحرب التي تختلف بديهيا عن حالة السلم، مما أدى إلى نقص خطير في معدات وملابس واقية كانت ستقلل كثيرا من الخسائر في الأرواح بين الجنود البريطانيين.

المجوعة الأخرى المطالبة بعلانية جلسات التحقيق تشمل نواب البرلمان، بمجلسيه العموم واللوردات، الذين كانوا يعارضون الحرب (من الأحزاب كافة) ويدعمهم اليسار من المعلقين والإعلام اليساري (البي بي سي، القناة الرابعة، وصحيفتا الغارديان والإندبندنت).

هؤلاء أغراضهم سياسية ولن يرضيهم أي شيء أقل من فروة رأس بلير الذي يتهمونه بالسير وراء الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ضد الإرادة الشعبية. التهمة الأخطر التي وضعت بها هذه المجموعة بلير في قفص الاتهام هي الكذب على البرلمان.

كثيرون، ومنهم مستشارون سابقون في داوننغ ستريت، ودبلوماسيون سابقون، يتهمون بلير بالتآمر مع الرئيس بوش. أدلتهم أن الأخير كان اتخذ قرار الحرب على العراق في خريف 2002، وأنه أطلع بلير على تفاصيل الخطة وموعد الهجوم بأسابيع طويلة قبل تأكيد بلير لمجلس العموم في 31 يناير 2003 أن جهودا دبلوماسية تبذل لإقناع صدام حسين بنزع أسلحته من دون الحاجة للحرب، وهي خيار لم يتحدد بعد.

هذه الاتهامات الخطيرة أوجدت مخرجا للمحافظين، وكانوا صوتوا لقرار الحرب داعمين بلير عندما تمرد عليه عدد معتبر من نواب يسار حزب العمال مصوتين ضد قرار الحرب، ومن دون أصوات المحافظين لم يكن بقدرة بلير كسب التصويت في جلسة تاريخية صوت فيها نواب المعارضة مع الحكومة ونواب حزب الحكومة ضد أنفسهم في «حسبة برما» على الطريقة الإنجليزية.

عدم العثور على أسلحة دمار شامل في العراق ساعد المحافظين على تغيير موقفهم من «مع» إلى «ضد» الحرب، مبررين تصويتهم مع الحكومة بثقتهم في رئيس الوزراء ( بلير وقتها) معتقدين أنه يضع المصلحة القومية للأمة قبل المصلحة السياسية لحزبه الحاكم.

حتى بداية الأسبوع، أصر براون على سرية التحقيق، فالعلانية في رأيه ستدفع من كانوا وراء قرار الحرب عام 2003 ورجال المخابرات والجيش، إلى التحفظ في أقوالهم وإخفاء الحقائق، إما حرصا على الأمن القومي، أو على سمعتهم الشخصية، أو خشية لجوء بعض أهالي الجنود القتلى إلى رفع قضايا تعويض مدنية بعد انتهاء التحقيق ضد هؤلاء الشهود.

نشرت الصحف معلومات عن إلحاح بلير على الحكومة أن تكون شهادته في جلسة سرية، ولم تنكر مصادر «10 داوننغ ستريت» هذه المعلومات عندما واجهتها صحيفة «الشرق الأوسط»، فأفادت بأن «رئيس الوزراء استشار جميع الأطراف المعنية». ثم أكد متحدث «داوننغ ستريت»، بشكل غير مباشر، تراجع براون بقوله إن قرار العلنية أو السرية متروك لرئيس لجنة التحقيق السير جون شيلكوت، الذي قال بدوره إنه سيجعل الجلسات علنية إلا في حالات استثنائية تتعلق بالأمن القومي.

ومما زاد من «بهدلة» براون سياسيا، مصادفة استجوابه الأسبوعي في مجلس العموم (الأربعاء) لـ«يوم المعارضة» الشهري عندما تقدم مشاريع قرارات قوانين لمناقشتها، فاختار المحافظون التصويت على قرار يفرض علنية جلسات التحقيق، لكن هزمت الحكومة المعارضة بفارق بسيط بعد أن صوت قرابة 30 من نواب العمال ضد حكومتهم.

ما تخشاه الحكومة تسرب معلومات عن مؤامرات (لم ينفذ أي منها) قبل الحرب بين البيت الأبيض وداوننغ ستريت لإيجاد مبرر قانوني للحرب على العراق باستدراج صدام بطيران طائرات أمريكية وراء طائرة استكشاف الأمم المتحدة، فيطلق عليها النار ويصدر قرار مجلس الأمن ضده. وثبوت التهمة في تحقيق علني سيؤدي لفقدان الشعب ثقته بها.

لجنة التحقيق تؤكد أنها ستكون محايدة وأنها تدرس اتجاهات الأطراف المعنية والرأي العام لتحديد الخطوط وقواعد اللعبة في التحقيق واستجواب الشهود. ولأن اللجنة مكونة من كبار موظفي دولة وليس قضاة، فإن الشهود لن يطلب منهم أداء قسم أداء الشهادة بالحق كما هو الحال في التحقيقات القضائية.

وكان أداء القسم مطلب قادة الجيش حتى لا يتهرب براون من مسؤوليته بإخفاء الحقائق من دون اتهامه بالشهادة الزور، خاصة أنه ابن رجل دين نشأ في ربوع الكنيسة ويدعوا لمكارم الأخلاق.

كذلك بلير نفسه، وسكرتيره للمعلومات والاتصالات أليستير كامبل، المتهم بالمبالغة والتهويل من أخطار أسلحة صدام لتبرير الحرب، فكلاهما يريد الإدلاء بالشهادة وراء أبواب مغلقة. والاستجواب العلني، من دون أداء قسم أمام القضاة، لا شك سيدفعهما إلى إخفاء كثير من التفاصيل التي من دونها سيصعب على المؤرخين كتابة تاريخ هذه الفترة بالدقة المطلوبة.

ولا يعتقد الكثيرون أن هذا التحقيق، مهما كانت درجة شفافيته، سيكفي لإقناع المعترضين على حرب العراق، خاصة أهالي الجنود الذين ماتوا في الحرب، بل سيستمرون في المطالبة بمزيد من التحقيقات، وستظهر العشرات من الكتب والدراسات، وكل يفحص بدقة أحد التفاصيل التي غيرت مجرى الأحداث ما بين 11 سبتمبر 2001 وبين خروج آخر جندي بريطاني من العراق.

ونرجو أن تحتذى مثل هذه التحقيقات حذو الأنفلوانزا بأنواعها من طيور وحيوانات وتنتقل عدواها إلى منطقة البلدان العربية. فكم من حرب شهدتها تحتاج لتحديد المسؤولين عن سقوط الضحايا؛ كإرسال الجنود المصريين لليمن عام 1962 في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، أو جنود ليبيا في تشاد، أو الجيش السوري ضد أهل حماة، أو ضد الفلسطينيين في لبنان، ولم تشهد عاصمة واحدة تحقيقا عن المتسبب الأصلي في الحرب أو قامت هيئة قضائية باستجواب مسؤولين عن القرار أو بفحص الوثائق، إن وجدت؟