لعل مهنة الشرطي أكثر المهن التي يدور حولها لغط وجدل وقصص وتسميات مختلفة. الشرطي كلمة جاءت من الشُرَطة، ويقال إن معاوية بن أبي سفيان (وقيل عبد الملك بن مروان) أول من وضع نظام الشرطة للمحافظة على الأمن في الأسواق، وسمّوا شرطة لأن الواحد منهم كان يربط شريطا حول عضده أو معصمه ليميزه عن غيره.
للشرطي أسماء مختلفة، فهو في مصر «عسكري»، والأخيرة أصلها تركي. لا تميّز اللهجة المصرية بين الشرطي والعسكري، فعلى الرغم من أن مهمة العسكر الحفاظ على سيادة البلاد، بينما يحافظ الشرطة على النظام، يبدو أن السيادة والنظام اختلطا في عصر من العصور التي حكمت مصر في الماضي.
العرب في أمريكا يسمون الشرطي «عباس»، ويروون قصة طريفة يقال إنها وراء هذه التسمية، ومفادها أن شرطي مرور أمريكيا أوقف في إحدى الولايات طالبين عربيين يقودان سيارتهما بسرعة هائلة تعدّت السرعة القصوى المسموح بها، وراح يكتب لهما مخالفة سرعة مكلفة، غير آبه بتوسلاتهما بأن يسامحهما. وبعد أن يئسا منه راحا يكيلان له الشتائم باللغة العربية ظنا منهما أنه لا يجيدها. وبعد أن أنهى كتابة المخالفة المرورية سلمها لقائد السيارة وقال له بالعربية: «لا تسرع مرة ثانية، وحسّنا ألفاظكما مع الشرطة ولا تشتماهم، فقد يكون الثمن أكثر من مخالفة مرورية». تعجب الطالبان وسألاه بحرج ودهشة: أنت تتكلم العربية؟! فقال لهما: نعم، أنا عربي، واسمي عباس. وهكذا انتشر اسم عباس بين الجالية العربية في أمريكا.
الغريب أن باقي الأمريكان يسمون الشرطي بلغتهم الدارجة «خنزير». ولا أدري لماذا اكتسب الشرطي في أمريكا هذا الاسم.
بل حتى الفرنسيون لهم تسمية شنيعة بلهجتهم الدارجة للشرطي وهي «فليك»، التي تعني شيئا مقاربا لكلمة «خنزير» بالأمريكية. لا أدري لماذا تسمي شعوب الدول المتقدمة تسميات قبيحة لرجال ونساء يفترض فيهم أنهم «في خدمة الشعب»! فالشرطة في هذه الدول لا تقارن معاملتها بمعاملة الشرطة في عالمنا العربي والإسلامي عموما، ومع هذا فنحن لا نسمي شرطتنا خنازير ونكن لهم «كل احترام وتقدير»، بل حتى الدول التي تلعب دور الشرطي في مناطق مختلفة من العالم لا نسميها دول الخنازير.
يرتبط الشرطي عند الدول المتقدمة بالقانون والحفاظ عليه، بينما يرتبط الشرطي في عالمنا ارتباطا وثيقا بالنظام والمحافظة عليه. لم تعد كلمتا «القانون» و«النظام» تعنيان نفس الشيء في لغتنا العربية، فالقانون كلمة تعني كتابة ما يجب عليك كمواطن اتباعه والالتزام به، أما كلمة النظام فتكاد تعني «حصرا» النظام السياسي.
في ثقافتنا خوف من الشرطة، نحن نخاف من الشرطة حتى ولو لم نرتكب مخالفة يعاقب عليها القانون، وحتى لو لم نخالف «النظام» أو نختلف معه. لدى الشرطة في معظم دولنا صلاحيات تكاد تكون مطلقة، فللشرطي مطلق الحرية أن يقوم بما يشاء للمحافظة على النظام، وغالبا ما يكسر القانون لحساب النظام، وشعاره «يسقط القانون في مواجهة النظام»! من يتابع المظاهرات والاعتصامات في إيران يستغرب من أعداد العسكر والشرطة وأنواعهم: حرس الثورة هم الباسيج الذين خرجوا بالآلاف في شوارع المدن الإيرانية على ظهور دراجات نارية، كل شرطيين على دراجة، ويحملون هراوات وبنادق يضربون بها الناس ويمنعونهم من التجمع والتجمهر. إضافة إلى حرس الثورة هناك الباسدران، وهم حرس ثورة أيضا وجميعهم في خدمة النظام، وهناك الجيش والشرطة «العادية» والمخابرات والاستخبارات العسكرية، وكلها جميعا لحماية النظام والمحافظة عليه.
هل يمكن أن يكون هناك نظام دون «شرطة» تحافظ عليه؟ وهل يعقل أن يسري القانون بلا حماة أو رعاة؟ الإجابة على هذين التساؤلين هي بالطبع «لا»، ولكن الفارق «الحضاري والإنساني» يكمن في الفرق بين شرطي النظام وشرطي القانون.