قرار الغربة

TT

تناولت في مقالتي السابقة موضوع مهاجرة الوطن، وكيف اتخذ كل مغترب عربي قراره بعدم العودة لبلده. أتيت إلى ذكر صديقي الخطاط عبد الغني العاني، وكيف قرر عدم العودة للعراق عندما طالبوه بأن يسخر فنه في خط شعارات حزب البعث وكلمات صدام حسين. الزميل العاني اتخذ قراره في الغربة. فمعظم المغتربين يقررون البقاء في الغرب بعد أن يروا محاسن الحياة في المجتمع الغربي. أنا اختلفت عن ذلك. فأنا قررت مغادرة وطني، العراق، عندما صدمتني مظالم الحياة فيه، وقبل أن تقع عيني على الحياة الغربية.

كنت موظفا صغيرا في مديرية النفوس العامة. حضرت يوما إلى مكتبي متأخرا عن الدوام ببضع دقائق. ما كدت أجلس على مكتبي حتى جاءني الفراش، «أستاذ خالد، المدير يريدك». أسرعت لمقابلة المدير السيد فؤاد الانكرلي. بادرني بالسؤال عن سبب تأخري. أعطيته سببا ما. وإذا به يثور غضبا ويصرخ بي منددا بتأخري. لاحظت مدى عصبيته فرأيت أن أترك الغرفة وأعود لمكتبي. ما أن توجهت نحو الباب حتى دوى صوته كالرعد:

«تعال، كلب ابن الكلب! شلون تمشي بدون ما آذن لك»!

توقفت وعدت إليه لأسمع شريطا مقرفا من الشتائم. حصلت في آخره على إذنه بالعودة إلى مكتبي. وكان مكتبي عبارة عن طاولة بين نحو عشرين موظفا من الزملاء. جلست في مكاني وأنا أغتاظ أسى وألما. كنت تلميذا في كلية الحقوق وفي معهد الفنون الجميلة وموظفا مدنيا. أديبا وفنانا ومفكرا. ولكنني في عرف المدير كنت مجرد كلب. ووالدي رحمه الله، قضى كل حياته معلما تخرج على يديه مئات المتعلمين. ولكنه كان هو أيضا مجرد كلب. كلب وابن كلب!

جلست أمام مكتبي وأمام العشرين زميلا في الغرفة. دفنت وجهي في يدي باكيا. وفي تلك اللحظات والدموع تنساب على وجهي، اتخذت قراري. هذا بلد لا مكان فيه لكرامة الإنسان. قررت الهجرة منه في أول فرصة.

مرت الأيام ونسيت القرار وجئت لبريطانيا وعدت للعراق وانفجرت ثورة 14 تموز. راحت كرامات العشرات من تلامذتي تداس تحت الأقدام وتسفك الدماء ويسحل الموتى في الشوارع. يستمتع التلاميذ برسم المشانق والجثث على جدران أكاديمية الفنون. وإذا بذلك القرار القديم الذي اتخذته وأنا شاب صغير يتململ في عقلي الباطن ويعوم. هذا وطن لا مكان فيه لكرامة الناس ولا لحقوق الناس. آن الأوان لتنفيذ القرار القديم. وخرجت وكنت أول الخارجين. حدثني فيما بعد المحامي علاء اللامع فقال: كنت يا خالد طيرا من طيور النورس. شممت العاصفة حالما لاحت وراء الأفق، نشرت جناحيك وانطلقت بعيدا، من بعيد إلى بعيد.

www.kishtainiat.blogspot.com