الإعلام الطائر

TT

في مشهد من الفيلم الأخير «بوبوس» للفنان المصري الشهير عادل إمام، نراه وهو يمثل دور رجل أعمال محتال على البنوك يحتمي بعلاقاته، في المشهد يناقش فريق عمله ومحاميه عن خططه الاستثمارية الجديدة، وكان النقاش حول إنشاء محطة فضائية تابعة لرجل الأعمال، نراه يرد على من حاول التقليل من جدوى هذا المشروع بتذكيرهم بأنهم هم من قال له إن أي مجموعة اقتصادية ضخمة تحتاج إلى مؤسسة إعلامية تخدمها.

يلخص هذا الحوار الكوميدي الطابع حجم التغيير السريع الذي طرأ على دور الإعلام في العالم العربي بعد أن خفت قبضة الدولة الشديدة، وانزاح الظل العالي قليلا خلف الكواليس، فلم تعد الدولة هي السماء التي يتظلل الجميع بظلها وتدير الإعلام وتتحكم بتدفق المعلومات وتفسيرها وبنوعية الأخبار التي تبث والتي تحجب وشكل القضايا التي تتصدر القائمة الإخبارية أو التي تتذيلها. ولكن هذا التقلص لظل الدولة ليس كاملا، ففي النهاية لا نستطيع الجزم بأن الإعلام في العالم العربي أصبح حقلا مستقلا وسيدا مكافئا للحقل السياسي ومشتبكا في نفس الوقت طبعا، فهما يعملان على التأثير على واستخدام وخدمة «الرأي العام».

ما نستطيع تأكيده أن ثورة الاتصالات وانفجار المعلومات وتلاحق وكثرة الوسائط الجديدة في الاتصال أصاب الرقيب السلطوي بالارتباك، لم تعد القصة هي محطة إذاعة وشاشة تلفزيون وبضع صحف، الشاشة الوحيدة أصبحت مئات ومئات تتناسل كل شهر أو أقل حتى، والصحف صارت أهرامات من الأصناف والأنواع، ومع أنه يمكن، ولو بشكل أقل فعالية من قبل، التحكم في اتجاهات ومحتوى هذه الوسائل، بسبب علانية الملاك والمديرين لمحتواها التحريري، فإن الأمر يصبح مستحيلا مع شبكة الإنترنت التي يحركها ويشحنها بالمعلومات والأخبار والتحليلات، أشخاص لا صفة لهم ولا عنوان، ويكفي أن نتأمل في تأثير مواقع الفيس بوك والتويتر واليوتيوب، ناهيك عن الإيميل الشخصي والمجموعات البريدية، بين الأفراد، في التأثير على الرأي العام وتكوين الاهتمامات، لقد، أصبحت الوسائط الإعلامية هذه مفتوحة على بعضها بلا أبواب أو شبابيك، ما يكتب ويحشد في الإنترنت يجد طريقه للصحف والتلفزيون، والعكس صحيح، ويبقى طبعا أن القصة المكلفة ماديا هي التي تصنع في وسائل الإعلام التجارية التي «تنفق» على صناعة محتواها التحريري، ولكن يخشى أن يتضرر هذا الإنفاق بسبب عدم الجدوى الاقتصادية مع هذه المنافسة الشرسة من وسائل الإنترنت المجانية والشرسة والسريعة، وما زال الجدل والنقاش قائما بين أرباب الصناعة الإعلامية على كيفية التواؤم مع هذا الواقع الجديد.

الأخطر في هذه التحولات و«البعث» الإعلامي الجديد، هو انفتاح شهية الوسائل الإعلامية بشكل شره ومخيف على إيجاد المحتوى وخلق الخبر وجذب المستهلك الإعلامي بأي شكل من الأشكال، ومع احتدام المنافسة ووجود آليات تنافس تكفل اشتغال هذه الوسائل بطاقة الظفر والفوز، بصرف النظر عن خدمة رسائل ومشاريع سياسية أو ثقافية معينة، بمعنى أن خبرا كخبر زواج هيفا وهبي وكلفته، أو فضيحة لاعب كرة قدم، أو تعاون واعظ إسلامي مع مطرب شهير، تصبح مادة تنافس خبري بين وسائل إعلامية متحررة أو أصولية، على الإنترنت أو على الورق، أعني أن الجميع، بعيدا عن الأفكار والثقافات، خاضعون لشهوة التنافس الخبري، وهذا الصراع يزداد حدة يوما بعد يوم، طبعا يبقى أن كل وسيلة «تلون» الخبر، حسب توجهها، ولكن يبقى أن ملاحقة الخبر «المثير» هو العنصر الحاكم في هذه العملية.

من أجل ذلك يقع كثير من الأخطاء وعدم الدقة، وعليه تكثر الاعتذارات والتصحيحات، وربما الملاحقات القضائية أو التهديد بها، ولكن كل هذا لم يكبح جماح هذه الشهوة الإعلامية العارمة، خصوصا مع وجود صناع المحتوى الإنترنتي بالمرصاد، فكيف يقنع صاحب الجريدة الخاصة أو أصحاب برامج التوك شو، أو «التوك توك شو» كما قال الكاتب مأمون فندي، ساخرا، في هذه الجريدة، كيف يقنع هؤلاء زبائنهم بأن لديهم شيئا جديدا مختلفا عن ما قرأوه في شبكة الإنترنت أو في الرسائل النصية القصيرة على الموبايل؟

لن يجدي «ميثاق شرف إعلامي» عربي، ولا الوعظ الإعلامي حول الأخلاقيات، ولا حتى التلويح بقبضة السلطة، لأن حجم الطلب كبير، لكن لا يتوافق معه عرض ملائم، هناك شغف لدى الجمهور العربي للحصول على الأخبار وما خلف الأخبار، وليست هناك، كالعادة، ثقة بوسائل إعلام الدولة والسلطة، أعتقد أننا نحتاج إلى بعض الوقت حتى تتكرس ثقافة جديدة لدى المستهلك الإعلامي العربي تميز بين الغث والسمين، وحتى ذلك الوقت يحتاج الجميع إلى التحلي بشيء من الصبر وسعة الصدر، طبعا هناك إساءات وقبائح تنطلق في غمار السباحة الإعلامية الفوضوية هذه، ولكن ماذا نفعل؟ أحيانا تقرأ غرائب وعجائب من عجائب ألف ليلة وليلة في بريدك الإلكتروني عن شخصيات إعلامية أو سياسية أو دينية أو اقتصادية، جل هذه المعلومات ينتمي لعالم الفبركة والدجل، ويتم تناقلها بشكل واسع، ولكن الرهان هو أنها ستذوب مثل قطعة ثلج صغيرة تحت شمس الربع الخالي التي تتكفل بتطهير كل شيء!

قبل أيام أعلن محامي رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، المستشار بهاء أبو شقة، أنه قد تولى الآن القضية بعدما وصلت إلى محطتها الأخيرة والحاسمة أمام النقض المصري أو حبل المشنقة، المستشار أبو شقة قال بأن المرحلة المقبلة حرجة ودقيقة ولا تحتمل المزايدات أو «الشو» الإعلامي. كما نشرت تصريحاته جريدة «المصري اليوم»، وكانت أزمة نشبت في المشهد الإعلامي والرياضي المصري بسبب برنامج حواري أعلن فيه مذيع برنامج «القاهرة اليوم» نقلا عن بعض الصحف الأجنبية اتهامات تتعلق بسلوك اللاعبين الليلي مما أثر على نتائج المنتخب، فغضب أفراد بعثة المنتخب بقيادة المدرب، ودافع المذيع عن نفسه، وكان المهم في سياقنا هذا هو وصف المدرب لما حصل من الإعلام بأنه مجرد «شو» إعلامي على حساب المنتخب.

التساؤل: وهل «الشو» إلا العصا السحرية التي يبحث عنها الإعلام الجماهيري؟ الكل يبحث عن هذا «الشو» والاستعراض، والكل يطلب هذا الشو والاستعراض، هي صنعة لها أطراف عدة، حتى المحامون يدخلون في سوق «الشو» طلبا للشهرة وكسبا للجمهور، فهم، وغيرهم، يبيعون لزبون واحد، هو «الجمهور» أو الرأي العام.

هل يعني هذا أنه لا سبيل إلى السيطرة على شهوة الإعلام المتفجرة؟ أم أنه يعني أن نعيد وصف الواقع الإعلامي والاجتماعي كما هو، بعيدا عن الحديث عن «أخلاقياتنا ومثلنا»، أظن أن السبيل الأخير هو الحل ويكون الضامن لحريات وحقوق الأفراد والمؤسسات من أنياب الإعلام هو وضع مسطرة قضائية واضحة يتحاكم إليها أهل الإعلام والمتضررون منهم.

نحن أمام عصر جديد طارت فيه المعلومة والخبر بأكثر من جناح وإلى أكثر من جهة، وابتعدت عن بنادق الصيادين، ولا حل إلا بسماء أرحب على أمل أن تحسن الطيور يوما الطيران ولا تبعد عن أعشاشها أو تقع فريسة لجوارح السماء والأرض.

[email protected]