اليوم تستكمل القوات الأميركية انسحابها من المُدن.. ماذا سيحدث؟

TT

كثيرون خائفون مما سيحدث بعد استكمال القوات الأميركية انسحابها المفترض اليوم من المدن العراقية، ويعتقد آخرون أن الفرصة ستسنح لهم لتنشيط هجماتهم وتمرير مخططاتهم.. إلا أن المؤشرات الأكثر واقعية ترجّح عدم الأخذ باحتمالات تفجر الأوضاع إلى درجة الانفلات، الذي غابت فرص وقوعه من دون أن تستجدّ أسباب قاهرة.

أي تقييم عسكري محايد لا بد أن يصل إلى إقرار بحصول تحسن كبير في بناء القوات العراقية وتطور قدراتها، بفرعيها الجيش والشرطة، فعلى طول تاريخ العراق لم تكن فيه قوات شرطة بهذا العدد الضخم البالغ أكثر من نصف مليون مسلح، وهو رقم يفوق بعدة أضعاف تعداد شرطة ما قبل 2003 . كما أن تجاوز الجيش لسقف 300 ألف مسلح يعتبر تقدما كبيرا. وتبقى القوات في حاجة ملحّة إلى التحرك وفقا لحركة المعلومات لمنع وقوع العنف.

وقطعت أجهزة الأمن والاستخبارات شوطا في بناء مؤسساتها، إلا أن عناصر نجاح هذه الأجهزة أكثر تعقيدا مما مطلوب لبناء القوات المسلحة، ففي كل الأجهزة المهمة في العالم يخضع ضباط الأمن والاستخبارات لمراحل طويلة ودقيقة من الإعداد، قبل أن تبدأ مرحلة تصنيفهم إلى المواقع. وبعد مرحلة من التجارب العملية يجري اختيار عدد منهم للعمل في أقسام تحليل المعلومات. لأن كثيرا من المعلومات غالبا ما يأتي مُربِكا ومتناقضا أو على شكل نُتَف متفرقة. وطبقا لهذه القواعد، تحتاج الأجهزة الخاصة إلى فترة طويلة لبلوغ مرحلة مواكبة حركة المعلومات ومتطلبات عمل القوات. وأذكر مثلا من حرب السنوات الثماني، حيث كانت الأجهزة العراقية تضخّ كمّا من المعلومات المُربِكة إلى مراكز القيادة الإيرانية، وفي كل الحالات، كان الإرباك يسود عمل تلك القيادات فتنتهي إلى الفشل.

الأكيد الذي يمكن ترجيحه هو «انتهاء» احتمالات حصول انفلات شامل، حتى لو كانت فيه مصلحة لأطراف معينة، لكن توقع انتهاء العنف أو عدم تصاعد النشاطات في بقع متباعدة، وتوقيتات مختلفة وأحيانا مترادفة، هو ما لا يمكن الأخذ به حاليا.

حتى الآن لا يزال ما تحقق من تقدم أمني قائما، فقد انخفض عدد الهجمات المناوئة لقوات التحالف والسلطة إلى نسبة تفوق 90% معدلات الذروة، إلا أن ما وقع خلال الأسبوعين المنصرمين من هجمات دموية في منطقة البطحاء جنوبا وتازه شمالا وفي بغداد، يعكس حقائق تدل على أن مخططي ومنفذي الهجمات الدموية لا يزالون موجودين وأن جهازهم المركزي عامل. ويكمن أكبر المخاطر المستقبلية في القاعدة ودور إيران، والخلافات السياسية التي تؤدي إلى خلخلة الأمن بقصدٍ وتوجيهٍ أو من دونهما.

بالنسبة إلى القاعدة، لا ينبغي توقع انتهائها كليا على المدى المنظور، بعد أن نجحت في تجنيد آلاف الأشخاص، قبل أن تواجه زخما عملياتيًّا ضخما وقدرات هائلة، بالتعاون بين قوات التحالف والقوات العراقية ومجالس الصحوة. و يدلّ تحليل الهجمات الأخيرة على أن عناصر القاعدة ومن يقف وراءهم، هم من يشنون مثل هذه الهجمات، ويبحثون عن أهداف مدنية لغرض إثارة نوازع الحرب الطائفية مجددا.

وتبقى إيران مصدر قلق رئيسي، خصوصا مع موجة الاحتجاجات الكبرى التي شهدتها طهران ومدن أخرى، واتهام المسؤولين الإيرانيين للغرب بالتحريض عليها ودعم قوى المعارضة. وأصبح مرجحا لجوء فيلق القدس إلى تكثيف جهوده لزعزعة الأمن في العراق، لصرف الانتباه عما يحصل في إيران، ولتوجيه رسالة جديدة إلى الولايات المتحدة لإثبات الوجود وللانتقام من تدخل «مفتعَل» في الشؤون الداخلية.

أما الخلافات السياسية، فحتى الآن لم يحدث انفراج حقيقي في تسوية الخلافات القائمة بين الكتل السياسية، وكثيرون ممن يشغلون مناصب رفيعة في الرئاسات الثلاث يُظهِرون عدم رضاهم عن سير المصالحة الوطنية، ويمكن وصف العلاقات بين الأطراف المختلفة بعدم الثقة، ووصل الحد إلى توجيه اتهامات مغلفة متبادَلة، عن الوقوف وراء العمليات الدموية أو إيجاد أسبابها. وتقع على الكتل السياسية مسؤولية تحويل العراق إلى بيئة تنبذ العنف، وهذا يمكن تحقيقه فقط في حال انتهاء مرحلة التضارب الحزبي الضيق والتوجهات الطائفية والعرقية.

يضاف إلى ما ورد عدم حدوث تقدم يُذكر في الملفات العالقة بين إقليم كردستان وحكومة المركز، وكذلك بين الإقليم ومحافظة نينوى، حيث ترفض ستة أقضية الخضوع لسلطة المحافظة بقيادة قائمة الحدباء. ولم تصل كل اللجان والجهود المحلية والأممية إلى نتيجة حاسمة لمسألة كركوك الأكثر تعقيدا.

ومهما كانت التطورات فينبغي أن تضبط القوات العراقية تحركاتها وفق خطط محددة، لا تتخذ طابعا شموليا أو انتقاميا في حال وقوع حوادث مؤلمة، فالأسابيع القادمة ستكون مرحلة اختبار لتوجهات الجيش والشرطة وقوى الأمن، من دون تمييز إلا على أساس الفعل.

[email protected]