سماح يا أهل السماح

TT

لو لم أولد في مدينة وانشأ في مدينة وتأخذني الحياة من مدينة إلى أخرى بسبب الدراسة والعمل، لما أحببت حياة المدن إلى حد الشوق والهيام. ورغم هذا الاشتياق للإيقاع السريع وازدحام الوعي بالوجوه والأصوات والروائح، أجد نفسي بعد الوجود في مدينة ما، أفكر في مخلوقات الله الأخرى التي تسكن المراعي والمروج والبحار والجبال. وانتبه إلى أن التفكير في تلك المخلوقات شيء والتعامل معها شيء آخر. فلقد جبلتنا حياة المدن على الخوف من الحيوانات والطيور والحشرات، خوف تتراجع أمامه كافة المشاعر الإنسانية الأخرى، بحيث تتغلب غريزة حب البقاء وما يصاحبها من ردود فعل دفاعية على السلوك.

عدت من سفر فهالني أن وجدت جيوشا من النمل الطائر وقد ماتت واستقرت على قاعدة شباك إحدى الغرف. وأدركت أنها ربما وجدت طريقها إلى داخل البيت عبر نافذة مفتوحة ولقيت مصرعها بفعل المبيد الحشري الذي أرشه قبل كل سفر، خوفا من هجوم مباغت على بيتي وأنا غائبة. الحقيقة هي أنني ارتعبت من عدد النمل الميت وأدركت أن هناك المزيد من فلوله تتأهب لهجوم جديد. ولذلك اتصلت بالهيئة المنوطة بمكافحة الآفات، وحضر مندوب في اليوم نفسه ومعه وسائل ردع كل معتد حشري على بيتي المتواضع.

بعد يوم أو بعض يوم، داخلني إحساس قوي بالذنب، وتصورت أن النمل يعقد مؤتمرا ليتباحث في وسائل حماية الشعب النملي من نوايا فوزية السفاحة. تصورت كبيرهم مقطب الجبين، إن كان له جبين، وقد ركبه هم كبير، لأن المعركة غير متكافئة وكأنها معركة جالوت وداوود. أحزنتني أفكاري واستغفرت كثيرا. وبحثت عن أي مادة علمية تفيدني فيما يتعلق بتكوين الحيوانات والحشرات والطيور: فهل هي تشعر كما نشعر وتتواصل كما نتواصل وتتقي الشرور والأخطار كما نفعل؟

قرأت في مجلة علمية أن أبحاثا أجريت في كينيا على قطعان الفيلة، ولاحظ الباحثون أن الفيلة حين تلتقي تصدر عنها أصوات عالية مصحوبة بتحريك آذانها الكبيرة وخراطيمها في حركات دائرية، واستشفوا من ذلك أن الفيلة تسلم وتعبر عن السرور حين يلتقي الأصدقاء. ولاحظ الباحثون أيضا أن مجموعات منها تجتمع حول جنين ولد ميتا وتجري محاولات لإنعاشه، وإن فشلت محاولات الإنعاش التف حوله الكبار لعدة أيام متوالية، وقد تدلت آذانهم حزنا عليه. وإذا تعرض فيل للجرح بفعل صياد التف حوله القطيع لدعمه وملامسته حتى يلتئم الجرح.

وهناك نظريات تجزم بأن الشمبانزي يعبر عن مشاعر الفرح والخوف والغضب والأمومة. وكم من قصة سمعنا بها عن وفاء الكلب وحمايته لصاحبه عند الضرورة.

تجاربي الشخصية تؤكد ما قرأت، وإن كانت محصورة في معرفتي بالقطط. فإن حبي للقطط يرجع إلى الطفولة، وبعد أن كبرت اقتنيت عدة قطط وامتد حبي لها إلى أهل بيتي. أما القصة التي تؤكد أن للحيوان الأعجم مشاعر تشمل الود والوفاء والغضب أحيانا، فهي قصة مرت عليها سنوات. حين اضطرت ظروف الدراسة ابنتي للسفر وخلا من ضوضائها ومن روحها الشابة البيت، كانت القطة تهيم باحثة عنها ويعلو مواؤها وكأنها تسأل أين ذهبت. وبعد أن يئست من الحصول على أجوبة اعتصمت أمام باب غرفة ابنتي المغلق عدة أيام ورفضت الطعام.

فهل يسامحني كبير النمل؟ تلك هي المسألة. ليتني أفهم لغة تلك المخلوقات لعلي أستطيع أن أطلب العفو.