في شأن الذي جرى في إيران!

TT

ليس سهلا تقييم ما جرى في إيران منذ أن ظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية، وما نجم عنها من ردود فعل عنيفة، لجأ بمقتضاها المعترضون إلى الشارع احتجاجا ورفضا. فهناك وجهة النظر الإيرانية التقليدية بأن المسألة برمتها لم تزد عن كونها جزءا من مؤامرة غربية أمريكية صهيونية للتأثير في نظام مقاوم ومعارض، وهي وجهة نظر يقضها أن الذين نزلوا إلى الشارع لم يكونوا إلا جماعة جاءت من صلب النظام الإيراني، بل إنه هو ذاته، وعلى طريقته هو الذي اختارها دون غيرها من آلاف المرشحين، لكي تكون جزءا من «اللعبة» الانتخابية بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث لا يسمح النظام إلا بمرشح من داخل «الحوزة» السياسية للنظام الإيراني، وليس من خارجه.

وهناك وجهة النظر التقليدية أيضا التي تقول بأن النظم الثورية غالبا ما تواجه لحظات من الانشقاق الداخلي ما بين المعتدلين والمتشددين، والإصلاحيين والمحافظين، وكلها تعبيرات درج إطلاقها على لينين في مواجهة تروتسكي، أو الأخير مع ستالين، أو ماوتسي تونج مع شواين لاي، عند وضع الجميع في إطار الثورة البلشفية أو الصينية. ومن الجائز بالطبع أن نعود إلى الثورات الأمريكية والفرنسية للبحث عن دوائر الشد والجذب ما بين الذين يريدون للأمر أن يأخذ مداه، وهؤلاء الذين يرون للأمر أن يأخذ زمنه وواقعه في الحسبان. والمشكلة في إيران أن القسمة موجودة إعلاميا، ولكن معرفة أسبابها في السياق الإيراني يبدو عصيا، لأنه لا يكفي الاعتراض على عبارات يقولها أحمدي نجاد لوضع الخط الفاصل ما بين الاعتدال والتشدد؛ وبدون اختلاف جوهري حول بنية نظام ومساراته الخارجية والداخلية، فإن اعتبار ذلك سببا للمواجهة والصدام يبدو متهافتا. وربما كان جائزا أن يكون مثل هذا الانقسام سببا في تآكل النظم الدنيوية، حيث يختلف الناس حول السياسة العملية، أما في النظم «المقدسة»، أيا كان دينها، فإن الانقسام يقع على الخط الفاصل بين الكفر والإيمان.

وهناك وجهة نظر تقليدية ثالثة تقول بأن النظم الثورية في العموم مهما جرى تحويلها إلى دول ومؤسسات، لا بد لها في النهاية من تآكل وانهيار، وفي العادة لا يحدث ذلك فجأة، وإنما عبر جولات، حتى يصل النظام إلى نقطة إفلاسه الكبرى؛ فينهار. وما جرى في إيران لا يزيد عن كونه واحدا من هذه الجولات التي تتفجر عندها تناقضات شتى، ولكنها ليست بالضرورة الجولة الأخيرة. ومعنى ذلك أن الثورة ـ الإيرانية في هذه الحالة ـ ولو أنها تأتي أساسا لقلب الأوضاع رأسا على عقب، فإنها في العادة تتحول إلى قوة محافظة جبارة على الأوضاع القائمة، وفي حالة طهران تحديدا فإن النظام الذي أقامه الخميني قام على سلسلة من التعقيدات والمؤسسات المحكومة والمتوازنة التي تجعل هناك استحالة للتغيير من الداخل. وربما كانت فترة رئاسة خاتمي شهادة أولا على عجز رئاسة الدولة أمام قدرة المرشد والقائد العام؛ وثانيا عجز الإصلاح على أن يجد لنفسه مكانا في دولة هكذا مؤسساتها، بل إن الأغلب دائما هو أن يكون الرد على الإصلاح هو مزيد من التطرف والمحافظة، وفوقه استخدام العنف إذا كان ذلك ضروريا، حتى ولو كان مع جماعة أخرى من نفس النظام. ولم يكن استعراض أحمدي نجاد لعضلاته الثورية والعسكرية أمام موسوي في الانتخابات وما بعدها إلى صدى لعمليات سابقة جرت مع قطب زادة والحسن بني صدر وآخرين تصوروا مثل هذه الإمكانية للإصلاح من الداخل. والدرس هنا أن الثورة الإيرانية ونظامها السياسي ليس ذلك النوع من التغير الذي يعتري الأنظمة بفعل تغيرات محلية أو عالمية، أو تلك الطريقة للتحول التي تأتي من داخل الأنظمة السياسية، ولكن الأرجح هو أن لا تغيير هناك في أي وقت إلا بالانهيار الكامل في لحظة تاريخية فاصلة.

أمام كل وجهات النظر التقليدية والقاصرة أيضا إزاء إيران، فإنه لا يوجد أمام المحلل سوى الانتظار، فالأرجح أن لكل حالة تاريخية خصوصيتها، وهناك دائما من يعتقدون بإمكانية الإفلات من الأحكام التاريخية العامة. ولكن المؤكد هو أنه لا يوجد نظام سياسي يمكنه الإفلات من حكم «الكفاءة»، بمعنى القدرة على إدارة الموارد، والتعامل مع حاجات الشعب والأمة. والقضية هنا ليست مدى رضا الفقراء أو سخط الأغنياء، فانعدام الكفاءة لا علاقة له بهذا أو ذاك، وفي دولة نفطية هائلة الموارد مثل إيران، وبعد ثلاثة عقود من الثورة، فإن الكفاءة فيها تكاد تكون من المحرمات، لأن الدولة ليست معقدة فقط وتدار بالعديد من المجالس، ولكن لأن بيروقراطيتها اقتربت من كل الحالات المعروفة في النظم الاشتراكية، ولكن تحت العباءة الإسلامية هذه المرة.

ولا يمكن لأي نظام سياسي، مهما اشتدت سطوته والتهبت أصابع ناسه تصفيقا للمجاهدين وحناجر أهله هتافا للجهاد، أن يفلت من التغيرات الجارية داخله، وأولها التغيرات الديمغرافية، حيث تأتي أجيال جديدة لا تعرف الكثير عن الماضي الذي يلعنه الآباء، ولكنها تعرف الكثير عن الحاضر، حيث يبدو هؤلاء الآباء فاسدين من ناحية، وعاجزين من ناحية أخرى. أما التغيرات التي تأتي من الخارج، وفي مقدمتها الثورة أو الثورات التكنولوجية، فحدث ولا حرج عما تعطيه للأجيال الجديدة من حسرة على ما يعيشونه، ومن قدرة على تجاوز الواقع. وإذا كان هناك من ملمح لحالة الاحتجاج الإيراني، فهو أن الشباب تجاوز كثيرا حالة مرشحهم موسوي، أو الانتخابات الإيرانية، ومَنْ فاز فيها ومَنْ خسر، ولكن المسألة صارت التساؤل حول موضع إيران من عالمها الذي تعيش فيه. والمدهش أنه بينما كان الشباب الإيراني يطرح السؤال وهو واقع تحت هجوم الغازات المسيلة للدموع، فإن جماعة من المحللين العرب، الذين يطرحون هذا السؤال بإلحاح فيما يتعلق بدول عربية كثيرة، كانوا على استعداد لغض النظر تماما عن البحث عن إجابة فيما يخص إيران.

ولكن السؤال واحد في كل الأحوال، ومن يظن أن درس إيران يخصها وحدها سوف يجانبه الصواب، وسواء كانت المسألة هي كفاءة النظم، أو وجود الأجيال الشابة الجديدة، أو تواجد الثورات التكنولوجية المعاصرة، أو حتى ظاهرة أوباما الجديدة على مسرح التغيير في العالم، فإن كل الأسئلة مطروحة على الجميع، ولا فارق فيها بين عربي وأعجمي إلا بالبحث والاجتهاد والتغيير. ولكن تعميم القضية لا يعفي من الاهتمام بإيران وحالتها الخاصة، لأنها أولا هي جزء أساسي من التوازنات الإقليمية، ولا يمكن تجاهلها، وهي فاعل خطر إذا كانت ثورية، وفاعل لا يقل خطورة إذا كانت امبراطورية. ولأنها ثانيا ستكون لعنة إذا كانت قوية تصدر الأيدلوجية وتنفخ السياسات بالدين؛ ولعنة أكبر إذا ضعفت وتفككت، ومَنْ لم يستفد من درس العراق، لن يستفيد من درس آخر.

إيران دولة في كل الأحوال، وهي من القدم والحضارة، بحيث إنها وحدها التي سوف تقرر كيف سيكون التغيير، ومتى يحدث التعديل في المسار والتوجه، ولكن المؤكد أن الدولة الإيرانية لن تبقى على حالها، لأن حالها ليس حالا على الإطلاق، وإنما هو مجموعة من العقد والتشكيلات التي تشبه السجاجيد الإيرانية المتشابكة والمتداخلة الخطوط والمكعبات والمربعات، حتى إن من قال بأنه خبير بالشأن الإيراني، فقد خُدع. ولو كنت مكان القادة العرب، لما تفاءلت ولا تشاءمت مما جرى في إيران، ولأبقيت في كل الأحوال خطوطا مفتوحة مع كل القوى والتجمعات، سواء كانت في الحكم، أو في المعارضة وما بينهما في الجامعات والبازار، وبالطبع حركة القوات والأسلحة، ولراقبت على مدار الساعة التصرفات الإيرانية في الداخل وفي المحافل الدولية، وباللغة الفارسية كما هو الحال باللغة الإنجليزية، لأن الدول لا يحكم عليها بالكلمات وحدها، وإنما قبل ذلك بالأفعال والسلوك في الداخل والخارج أيضا. ولأن الأمور بالأمور تذكر، فما هو عدد مراكز البحوث المهتمة بإيران في العالم العربي؟. ولا أقصد هنا المهتمين باللغة الفارسية، أو الأدب الإيراني، وإنما المهتمين بإيران، والمتخصصين فيها كدولة.