الرئيس الهادئ يعرف ما يفعل

TT

تنقسم خطايا السياسة الخارجية الأميركية إلى فئتين: الاقتراف والإهمال. تشمل خطايا الاقتراف الحرب على فيتنام والعراق والسياسة التي اتخذتها الولايات المتحدة تجاه أميركا اللاتينية والتي صيغت خصيصا لملاءمة احتياجات شركة «يونايتد فروت كو». أما خطايا الإهمال فليست بذلك الوضوح، ولكنها تشمل الفشل في الإيفاء بالوعود الخاوية للعديد من الشعوب المستعبدة ـ المجريين في 1956 والشيعة في 1991 ـ بأن أميركا سوف تأتي لمساعدتهم. ولكن في ما يخص إيران، تبدو الإدارة الأميركية عازمة على أن لا تضيف المزيد إلى هذه القائمة.

وقد أثبتت السياسة الحالية ـ التي ينتقدها العديد من الجمهوريين البارزين ـ صحة تباهي باراك أوباما في الخطاب الذي ألقاه في القاهرة بأنه «دارس للتاريخ»، فهذا الدارس بداخل أوباما يدرك أن أسوأ شيء يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في هذه اللحظة هو أن تمد القائد الأعلى في إيران والقادة الأقل منه بالكلمات التي تسمح لهم بوصم المعارضة بأنهم عملاء لأميركا، أو الأسوأ أن توعز إلى المتظاهرين بأن واشنطن سوف ترسل إليهم نوعا من المساعدة.

وينتقد بعض المنتقدين أوباما لأنه لم يفعل ما فعله رونالد ريغان في أعقاب الانتخابات المزيفة في الفلبين 1986، فبعد بعض التردد أجبر ريغان فعليا الرئيس فرديناند ماركوس على الرحيل إلى المنفى. يا للبراعة! كيف لا يكون ذلك سابقة بالنسبة إلى إيران؟

كان ماركوس ـ باستعارة تعبير كان شائعا في أثناء الحرب الباردة ـ «تابعا لأميركا»، والفلبين بأسرها كانت مستعمرة أميركية سابقة، فنحن نعرف الدولة. لقد كنا فعليا نمتلكها في وقت من الأوقات.

وعلى النقيض من ذلك فإننا فعليا لا نعرف الكثير عن الطريقة التي تحكم بها إيران. على سبيل المثال، إذا طلب البيت الأبيض من وزارة الداخلية إرسال أحد لديه خبرة فعلية بإيران المعاصرة فإن السيارة سوف تصل فارغة، فقد غادر آخر دبلوماسي إيران في 1979. ويجب على الولايات المتحدة أن تعتمد على الدبلوماسيين الأجانب والصحافيين في الحصول على المعلومات.

ولكن المعلومات ليست خبرة، فلا يمكن أن تُحِلّ محل الإحساس بالبلد الإحساسَ بما يمكن أن يحدث بعد ذلك. وهذا النوع من المعرفة بالتحديد هو ما كانت تفتقده الولايات المتحدة في العراق، فقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن الأقمار الصناعية وتتبع المكالمات الهاتفية وما يشبهها لا يمكن أن يحل محل الذكاء البشري. وعليه، يُبدي البيت الأبيض في ظل إدارة أوباما احتراما عظيما للأمر الذي لا يعرفه.

على سبيل المثال، فإن السؤال الجوهري الآن هو: ما دور الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رافسنجاني؟ فعلى حد علم واشنطن، خرجت هذه الشخصية النافذة من دائرة الضوء. ومن المفترض أنه يعارض الرئيس محمود أحمدي نجاد، ومثله مثل من يفترض أنهم إصلاحيون، يعارض القوة والنفوذ المتزايدين للجيش. ولكن، أن تطلق على مثل هذه الشخصية ذات الميول المحافظة القوية والتي كانت فعليا مناهضة لأميركا ـ مثله مثل الكثيرين ـ تعبير «إصلاحي»، فإن ذلك يعطي للمصطلح معنى جديدا تماما.

إلا أن مثل تلك الاختلافات لم تترك أثرا كبيرا على بعض الجمهوريين. وكما كان الحال أيام الحرب الباردة، هم تواقون إلى خطاب ليبرالي، تعبيرات قوية وأناقة بلاغية تماثل خطب توماس جيفرسون. يتساءل كل من السيناتور جون ماكين والسيناتور ليندسي غراهام: مَن أكثر مؤيدي ذلك الخط من الانتقادات؟ لماذا لم يُدِن أوباما ذلك القمع في الأساس باستخدام تعبيرات أكثر قوة كما فعل الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؟ يقول غراهام: «يُفترض أن يقود رئيس الولايات المتحدة العالم الحر، لا أن يتبعه».

عادة ما يكون ذلك رأيا صحيحا، ولكن ليس هذه المرة، فليس لأي من ألمانيا أو فرنسا تاريخ أميركا في العلاقات مع إيران. أميركا هي التي شنت الانقلاب العسكري في 1953 وخلعت محمد مصدق وأعادت الشاه إلى عرشه «تخت الطاووس». ولم تكن أي من ألمانيا أو فرنسا موضعا للتوبيخ الإيراني منذ ثورة 1979 ـ وكل المسائل المتعلقة بمسألة الشيطان الأعظم ـ ولم تشعر أي من هذه الدول بأنها ملزَمة باستجابات من نوع «محور الشر» خلال سنوات بوش.

ولكن إذا ما كان لماكين وغراهام وغيرهم شكوى حقيقية فهي لا تتعلق بكلمات أوباما ولكن بإيقاعه، فالرئيس الهادئ يبدو منفصلا عاطفيا عن الأحداث في طهران، لا نقول غير مهتم، ولكنه كذلك ليس منزعجا إلى حد كبير. وسوف يكلف ذلك الهدوء أوباما الكثير في السنوات القادمة، فهو يعرف آلامك، ولكنه لا يشعر بها.

تشكل إيران أول «أزمة» سياسة خارجية تنبهنا لما يجب أن نتوقعه في المستقبل: رسالة خاضعة للسيطرة المشددة من البيت الأبيض (هل سمع أحدكم أي شيء من هيلاري كلينتون أخيرا؟) تقوم على التفكير المتروّي للخيارات دون إصدار تعليقات صريحة. هذه هي الطريقة التي أدار بها أوباما حملته، وهذه الطريقة التي سوف يدير بها سياسته الخارجية. ولعلم ماكين فإنها سوف تنجح.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»