خواطر ما بعد إيران: التاريخ يلتحف ويغط

TT

يبدو وكأن التاريخ يملك الوقت. إنه محطة قطار، تتحرك الأشياء من فوقه حسب الثواني، وتنطلق منه كافة الاتجاهات، ويتحرك فوقه أبطال القصص والحكايات والمهرجون. أما هو، فهو رابض في مكانه، يتأمل الأضواء تنطفئ وتضاء، والأجيال تتغير، والناس تعدو وتقلق وترتعد من فكرة فوات المواعيد والأوان. وهو قابع يراقب ويدون، مثل كتَّاب التسجيلات في الجامعات والمستشفيات وطوابير الإعاشة. يدون جالسا، لا يغير كرسيه، كل شيء من حوله يتغير إلا هو. لماذا؟

لأنه السيد التاريخ. لا مهمة أخرى له، ولا حياة لغيره خارج هذه الحياة. يراقبنا ويضحك. يرانا مستعجلين ويعرف أننا سوف ندور حول أنفسنا. وأننا نعتلي الأغصان لكن كالببغاوات. كيف يمكن أن تنطق الببغاوات؟ ألا يفترض أن الإنسان وحده هو الحيوان الناطق. بلى، الأمر كذلك، لكن الببغاء ليس حيوانا، يا ذكي. إنه طائر. ولذلك اعتذر منه بطل أوكتافيو باث عندما سمعه يتكلم: عذرا يا صاحب السعادة، لقد اعتقدت للوهلة الأولى أنك طائر.

التاريخ محطة قطار، يودع ويستقبل. والحقيقة أنه من هذه الناحية يظهر موضوعية مذهلة. يوفر للقطارات السكك، لكنه لا يتدخل إطلاقا في اتجاهاتها. ولا حتى عندما تخرج عن الخط أو عندما تصطدم بقطار آخر. أو عندما تقع في فخ نصبه سارقو الذهب، كما في أفلام الكاوبوي. هو، التاريخ، مجرد محطة. لذلك كثر استخدام تعابير باهتة من نوع «محطة» تاريخية. أو «مفترق» تاريخي. أو «مفصل» تاريخي، دلالة على تحويل اتجاه القطار من هنا إلى هناك، على ما في ذلك من فروق لا تصدق. أقصد أنها لا تصدق في البداية، لكن لا تلبث أن تتحول إلى أمر عادي. أو معتاد. ونسارع نحن إلى تسمية ذلك بالأمر الطبيعي. وهو في الحقيقة ليس طبيعيا على الإطلاق. نحن في عالم يكره طبيعته ويحاول مقاومتها باستمرار: خذ حالة المثليين، نموذجا. أو من نعرفهم الآن بالمثليين، بعد خروجهم إلى العلن. ماذا كان يفعل التاريخ قبل نصف قرن؟ كان يكتفي بتدوين أسمائهم دون أن يطرح أي سؤال. ثم لاحظ أنهم يعلقون حلقا في آذانهم. ثم رآهم يشبكون الأيدي ويتودعون في المحطة على طريقة سيدنا آدم وأمنا حواء. فماذا يفعل؟ ردَّ اللحاف فوق رأسه، وغط غطيطا تاما، مثل جوني براون في أفلام الكرتون.

إلى اللقاء.