نهاية تنافس المسارات وانطلاقة قريبة على الجبهة السورية

TT

تشير التقديرات، المستندة إلى معلومات يجري تداولها بحذر شديد، إلى أن تحريك المسار السوري باستئناف المفاوضات غير المباشرة ثم بعد ذلك الانتقال إلى المفاوضات المباشرة في فترة لن تطول كثيرا قد يتجدد في أي لحظة، فالظروف باتت ملائمة ومشجعة والسوريون كما هو واضح غدوا أكثر قناعة بضرورة التخلي عما كان سببا لإهمال «مسارهم» وبخاصة في مجال علاقاتهم الخارجية.

خلال أيام لن تكون بعيدة سيكون هناك سفير أميركي في دمشق بعد غياب أربعة أعوام والواضح تماما أن كل الطرق بين سوريا والولايات المتحدة باتت سالكة وآمنة وعلى أساس قناعة الأميركيين بأن السوريين اتخذوا خطوات حسن نوايا مقنعة إنْ لجهة الأوضاع في لبنان وإنْ لجهة المزيد من التضييق على طرق تسرب الإرهابيين إلى العراق عبر الحدود السورية ـ العراقية.

كانت الولايات المتحدة قد حمّلت سوريا وإنْ بصورة غير رسمية مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ومسؤولية كل الاغتيالات الأخرى التي شهدها لبنان بدءا بالعام 2005 وكانت قد حمّلتها أيضا مسؤولية تردي الأوضاع اللبنانية في مرحلة ما قبل اتفاق الدوحة ومسؤولية فتح طرق الإمدادات وتسريب الانتحاريين لتنظيم القاعدة وكل الجماعات والمجموعات «الإرهابية» التي تواصل العمل على تقويض الأوضاع العراقية.

وكانت الولايات المتحدة تأخذ على دمشق أيضا تحالفها مع إيران وتقديم العون والدعم لمنظمات الرفض الفلسطيني وعلى رأسها «حماس»» وكان أحد شروطها لاستئناف العلاقات السورية ـ الأميركية المتوقفة وإعادة المياه إلى مجاريها بين الدولتين أن توقف سوريا دعمها إلى هذه المنظمات وهذا بالإضافة إلى شرطَي عدم التدخل في شؤون لبنان الداخلية وضبط الحدود السورية ـ العراقية والتوقف عن سياسة غض النظر عن حركة أعضاء القاعدة وغيرها في اتجاه العراق.

وحقيقة أن الاستجابة السورية لكل هذه الشروط والمطالب جاءت أكثر من مرضية للأميركيين إذ حتى بالنسبة إلى العلاقات مع إيران فإن الواضح أن دمشق لم تعد تضع كل ثقتها بنظام متهوّر معزول ثبت أن الشعب الإيراني بغالبيته لا هو معه ولا يؤيده كما ثبت أن الأحداث الأخيرة ذاهبة إلى خط النهاية رغم كل محاولات التهدئة التي يقوم بها المرشد الأعلى علي خامنئي وتقوم بها بعض مراجع حوزة «قُم» العلمية.

سابقا وقبل هذا الزلزال الذي ضرب إيران من الداخل كانت دمشق تتسلح بعلاقاتها «الاستراتيجية» مع هذه الدولة الرئيسية والفاعلة والمؤثرة في إقليم الشرق الأوسط كله لتعزز مركزها التفاوضي مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة وكانت طهران لاعتقادها بعدم وجود إمكانية لتسوية مقبولة على المسار السوري لا ترى ضيرا لا في المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية غير المباشرة ولا في الغزل الناعم بين سوريا وأميركا.

وهنا فإن المؤكد أن المستجد الذي أدى إلى كل هذا التحول الواعد وعلى المدى المنظور القريب في العلاقات السورية ـ الأميركية هو مجيء هذا الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى البيت الأبيض بأفكاره وتصوراته التي ضمّنها خطابه الشهير في جامعة القاهرة والتي يلاحظ أنه لا يفوّت أي فرصة للتأكيد على أنه متمسك بها ومصرّ عليها.

ولهذا فإنه ليس من قبيل مجرد التكهن أن يُقال إن المسار السوري سيشهد صحوة حقيقية وانتعاشا جديا بعد تحسن العلاقات السورية ـ الأميركية وبعد حصول ما حصل في إيران وما زال يحصل وأيضا بعد كل هذا التقارب المشجع بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) والقيادة السورية وبعد بروز أدلة على أن واقع منظمات الرفض الفلسطيني لم يعد هو الواقع السابق في دمشق.

ولذلك وفي ضوء هذا كله فإنه يمكن الجزم بأن الأيام القليلة المقبلة ستشهد جديدا واعدا بالنسبة إلى المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية المتوقفة والتي قد تبدأ هذه المرة بصيغة «المباشرة» بدلا من صيغة «غير المباشرة» برعاية تركية وهنا فإن السؤال الذي قد يطرحه كثيرون هو: هل هناك يا تُرى عودة للعبة تنافس المسارات التي كانت إسرائيل لعبتها مع بداية عملية السلام في بدايات تسعينات القرن الماضي عندما كانت تُشعِر كل طرف عربي وبخاصة السوريون والفلسطينيون أن الأولوية ستكون لمساره على حساب المسار الآخر؟! في تلك الفترة المبكرة ولشعورها بأن نظرية الدوائر المتحدة المركز المتباعدة الإطارات التي كان طرحها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بيرجنسكي قد يتم اللجوء إليها والأخذ بها فإن سوريا كما هو معروف كانت قد رفعت شعار: «كل شاة معلقة من عرقوبها وكل واحد يقلّع شوكه بنفسه» بعد مؤتمر مدريد مباشرة وبعد شعورها بأن هناك لعبة لتأخير مسارها وأن الأولوية ستكون للمسارات الأخرى وأن النتيجة أنها ستصبح مستفردة وستطالَب بما لن تطالب به إن هي حرصت على أن يكون لمسارها مثل هذه الأولوية.

كان بيرجنسكي قد وضع في وقت مبكر يعود لبدايات ثمانينات القرن الماضي تصورا لحل قضية الشرق الأوسط تحدث فيه عن ثلاث دوائر متحدة المركز متباعدة الإطارات وهو اعتبر أن الدائرة الأولى هي الدائرة المصرية التي يجب إعطاؤها الأولوية وأن الدائرة الثانية هي الدائرة الأردنية ـ الفلسطينية وأن الدائرة الثالثة والأخيرة هي الدائرة السورية مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة إعطاء «الاتحاد السوفياتي» دورا إن هو أراد ومن خلال مؤتمر دولي لتثبيت الصيغة الأخيرة للحل المنشود.

وهكذا فإن تنافس المسارات بقي همّا يؤرّق الفلسطينيين والسوريين إلى أن سأل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أيهودا أولميرت محمود عباس خلال إحدى جولات التفاوض الأخيرة بين الطرفين عمّا إذا كان تنشيط المسار السوري بمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة سيغضبه ويغضب منظمة التحرير والسلطة الوطنية وعندها ولأن الجواب كان: «لا بالعكس.. إننا مع هذه المفاوضات ومع نجاحها» فقد طلب أولميرت من (أبو مازن) أن يبلغ موقفه هذا للرئيس الأميركي جورج بوش (الابن) الذي كان رده على ما أبلغه به الرئيس الفلسطيني: إنني إن أردتم هذا أتخلى عن مواقفي السابقة بهذا الخصوص.. إنه لا فيتو لي بعد اليوم بالنسبة إلى هذا الأمر.

الآن هناك رئيس أميركي جديد وهناك إدارة أميركية جديدة وبتصورات تجاه الشرق الأوسط وأزمته وإزاء العالم الإسلامي كله غير التصورات الأميركية السابقة ثم هناك المشكلة الإيرانية الداخلية التي ثلمت هيبة إيران وحدّت من تأثيرها في المنطقة وهناك أيضا التحسن الملحوظ في الأجواء العربية ـ العربية والتقارب الواضح بين محمود عباس (أبو مازن) والقيادة السورية وهذا كله وضع حدا لـ«تنافس المسارات» وجعل تنشيط المسار السوري بأية صيغة من الصيغ وبأي شكل من الأشكال رديفا للمسار الفلسطيني لا بديلا عنه ولا على حسابه ولا عبئا عليه. إن تنافس المسارات لم يعد قائما وبالتأكيد فإنه لن يكون واردا ما دام الرئيس الأميركي يصر على أن تحريك المسار السوري وتنشيطه يجب أن لا يكون على حساب المسار الفلسطيني وما دام السوريون اقتنعوا بأنه لا تنافس بين مسارهم والمسار الفلسطيني وأن محمود عباس الذي لا يرى أي مبرر لهذا التنافس يقوم بدور الوسيط بين دمشق وواشنطن وأنه بذل جهودا فعلية لإقناع الأميركيين برفع مستوى مندوبيهم إلى العاصمة السورية وأنه هو الذي رتب أول زيارة قام بها جورج ميتشل إلى سوريا.

ويبقى في النهاية أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار مسألة أنه إذا بقي بنيامين نتنياهو مصرا على مواقفه الحالية وإن هو لم يتخلص من كوابح اليمين المتشدد بتشكيل حكومة جديدة غير هذه الحكومة فإن تجربة سقوطه في عام 1999 سوف تتكرر وعندها فإنه ستظهر معادلات أخرى غير هذه المعادلات القائمة وسيكون لكل حادث حديث.