حقيقة واضحة للناكرين

TT

هذه هي الاستراتيجية الخطابية التي عهدناها للرئيس الأميركي باراك أوباما، وهي من النوع الجامع بين الأطروحة والنقيض، مثل: الإسلام في مواجهة الغرب، وإيران في مواجهة أميركا، والفلسطينيين في مواجهة إسرائيل. وتستحوذ كل هذه الجوانب بدورها على جزء من الحقيقة. أما أوباما، فيعمد إلى تجميع قطع الفسيفساء تلك.

وبغض النظر عن المشاعر القوية والنشوة، نجد أن مقال إيفان توماس في «نيوزويك» إزاء خطاب أوباما في القاهرة، ينطوي على أهمية كبيرة، إذ كتب: «أعني بصورة أو بأخرى، أن موقف أوباما كان فوق البلاد، بل أعلى من ذلك، أعلى من العالم، لقد كان كالإله». وفي هذا المقام، يرسم المقال صورة رئيس أميركي جليل ومهيب للغاية في طلته، للدرجة التي اعتلى بها «فوق البلاد». نادرا ما يؤثر أوباما الخوض في الصراعات الآيديولوجية، وإنما يتوق للاضطلاع بدور حكم يبت في القضايا التاريخية.

ومع ذلك، كان هناك استثناء لافت للنظر في نهجه خلال جولته الخارجية الأخيرة، ففي عالم الضباب الخطابي الخاص بأوباما، والمقسم ما بين اللون الرمادي والرمادي الداكن، رسم الرئيس خطا واضحا، حيث قال في معرض حديثه إن إنكار حقيقة الهولوكوست «لا أساس له» وينم عن «جهل» و«كراهية». وتعرض في خطابه إلى «شر» الإبادة الجماعية، كما تبرأ من «الأكاذيب التي تروج بشأن تاريخنا»، وتحدى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لأن يزور بوكينوولد الألمانية.

لقد كان وضوح وتركيز أوباما على هذه القضية غير متوقع؛ وكان ضروريا في الوقت ذاته. ولطالما كان إنكار الهولوكوست موقفا راسخا لدى العناصر المعادية للسامية في الشرق الأوسط. لكن هذه النزعة استشرت منذ التسعينات؛ ليس فقط نظرا لجنون أحمدي نجاد، ولكن أيضا لخدمة استراتيجية أوسع.

يتمثل الهدف السياسي من إنكار حقيقة الهولوكوست بالشرق الأوسط في إفقاد دولة إسرائيل شرعيتها. وذلك على أساس أن إسرائيل ـ من هذه الزاوية ـ أسسها الغرب لشعورهم بالذنب تجاه الهولوكوست، وبناء عليه، فإن دحض حقيقة الهولوكوست يمحو سبب وجود إسرائيل ذاتها. وفي هذا الصدد ذكرت إحدى الصحف الأردنية: «أن الدولة اليهودية بأكملها شُيدت على أكذوبة الهولوكوست الكبرى». وأفاد وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي أن: «الرواية الرسمية للهولوكوست تثير الشك. وبالتالي، فإن طبيعة وهوية إسرائيل يجب أيضا أن تكون مثارا للشك».

ومثل هذه النظرة لتاريخ إسرائيل يعد تشويها في حد ذاته، فالهولوكوست حقيقة بالغة الأهمية لهوية إسرائيل، إلا أنها ليست هوية إسرائيل في حد ذاتها.

لقد كانت الصهيونية موجودة قبل الإبادة الجماعية ليهود أوروبا. وتعود الروابط بين اليهود وأرض إسرائيل إلى آلاف السنين. إن إسرائيل لم تظهر فحسب نتيجة للشعور بالذنب إزاء الهولوكوست. إنها موجودة نتيجة تماسكها، وإحساس التصميم والعزيمة، والنجاح القومي.

إلا أن غلبة وجهة النظر التآمرية هذه في الشرق الأوسط تميط اللثام عن التحديات التي يواجهها أوباما في دوره كحكم. ومثالا على ذلك، أوعز خطاب أوباما في القاهرة جذور الامتعاض الإيراني إلى الهجمات الغربية ـ أي أنه ردة فعل لتاريخ الانقلابات والاستعمار. بيد أنه من الواضح أيضا أن القادة الإيرانيين تستحوذ على تفكيرهم السياسات اللاعقلانية حول معاداة السامية. وذات مرة، زعم الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رافسنجاني أن عمليات بحثه وتحقيقاته الشخصية ساقته إلى القناعة بأن «هتلر قتل 20000 يهودي فقط، وليس 6 ملايين». فيما قال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي: «هناك دليل بأن الصهيونية كانت لها صلات وثيقة مع ألمانيا النازية، وأنها بالغت في الإحصاءات المتعلقة بقتلى اليهود، بل إن هناك دليلا بينا على أن عددا كبيرا من السفاحين غير اليهود، وقطاع طرق في أوروبا الشرقية أُجبروا على الهجرة إلى فلسطين باعتبارهم اليهود».

وتشيع هذه الآراء لدى الكثير من الفلسطينيين. وعلى الرغم من وجود عدد من القادة الفلسطينيين البراغماتيين الجادين، غالبا ما تروج شبكة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينية لمزاعم التشكيك في الهولوكوست. وقد خلصت عملية استطلاع للرأي أخيرة بين مواطني عرب إسرائيل إلى أن 40% منهم ينكرون حدوث الهولوكوست. كما أن حماس (التي قال عنها أوباما في القاهرة إنها قد «تلعب دورا في تحقيق التطلعات الفلسطينية») أشارت إلى: «أن ما يطلق عليه الهولوكوست ما هو إلا قصة مزعومة ومختلقة لا أساس لها». وقال أحد قادة حماس في غزة إن «الصهاينة كانوا وراء قتل النازيين لكثير من اليهود»، بهدف إجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين. وأضاف: «عندما نقوم بمقارنة الصهيونية بالنازية، فإننا بذلك نسب النازية».

لقد كان الرئيس أوباما مصيبا في وصفه لهذه الأشياء بأنها «أكاذيب»، لا تعد فقط جريمة أخلاقية، إنما أيضا تستهين بفداحة جرم من ارتكبوا هذه المجزرة. إن سياسات المؤامرة والضحايا تجعل من العسير على نحو بالغ مواجهة المصادر الحقيقية للاختلال الوظيفي الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي في الشرق الأوسط الموسع. ومع ذلك، يشير انتشار إنكار حقيقة الهولوكوست أيضا إلى النقيصة التي تضمنها نهج أوباما الخطابي والدبلوماسي، فربما لا تنطلق هذه المزاعم من شعور بالظلم فحسب، وإنما أيضا بالكراهية. ولا يمكن استرضاء هذه العناصر الكارهة عبر التنازلات المقدمة من قبل إسرائيل أو الغرب. وربما يكون من الخطأ افتراض أن الاختلافات القائمة بالمنطقة تحمل طابعا منطقيا يمكن البت فيه في بعض الأحيان. وربما لا يرمي البعض لإنكار الهولوكوست فحسب، وإنما لإكماله أيضا.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»