السياسات الأميركية الجديدة وردود الفعل الإيرانية

TT

انسحب العسكر الأميركي من المدن العراقية بما في ذلك مدينة كركوك الملتهبة. وما انتظر العنف المشتعل ذلك الخروج بل سبقه، ويتوقع المراقبون الأجانب والعرب أن يزداد بعد ذلك الخروج. ولا ندري لماذا يخرجون مثلا من مدينة كركوك بالذات، التي تتهددها على الخصوص الحرب الأهلية بين العرب والأكراد والتركمان، والطـوائف والإثنيات الأخرى الكثيرة. وقد سارع المسؤولون العراقيون ـ وعلى رأسهم رئيس الحكومة المالكي ـ إلى تأكيد قدرة القوات العراقية على حماية «الأمن والاستقرار» في العراق المستقل، والمتحرر من الاحتلال. لكن وفي يوم الخروج بالذات، يوم 30 يونيو (حزيران) حدث انفجار ضخم في كركوك راح ضحيته أكثر من ثلاثين قتيلا، وعشرات الجرحى، مما دفع معلقا للقول إن الجيش الأميركي إنما ترك المدن العراقية التي يسيطر عليها منذ العام 2003 للإيرانيين ولـ«القاعدة»! إنما الطريف والمؤسي أنه في الوقت الذي كان فيه المحللون العراقيون والعرب يتهمون بعد كل انفجار الولايات المتحدة به؛ فإن الأميركيين ظلوا يتهمون التنظيمات الإيرانية السرية بالتفجير في المناطق الشيعية، و«القاعدة» بالتفجير في المناطق السنية!

والواقع أن ذكر إيران «مفتاحيّ» في هذا السياق، إذا صح التعبير. ففي الوقت الذي لا يزال المسؤولون الأوروبيون والأميركيون مهتمين بانتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير في إيران بعد انتخابات الرئاسة؛ فإن المعلقين السياسيين الغربيين عادوا للاهتمام بالنووي الإيراني وبالمباحثات أو الحوار الذي يعتزم الأميركيون إجراءه مع إيران «حول كل المسائل العالقة بين البلدين»، وعلى رأسها النووي. وكانت صحيفتا الـ«واشنطن بوست» والـ«نيويورك تايمز» قد ذكرتا قبل أسبوعين أن دنيس روس الذي عمل في وزارة الخارجية الأميركية لثلاثة أشهر، قد انتقل إلى البيت الأبيض، بغرض إعداد الملف الشامل للتفاوض بين أميركا وإيران. والكلام المتداول حتى الآن لا يذكر القوة أو الهجوم بين العناصر التي ستتضمنها المبادرة الأميركية تجاه إيران؛ بل سيتضمن الرزمة التي عرضها الأوروبيون على إيران من قبل، مع جواذب أخرى مزيدة. وكل الجواذب في مقابل النووي الإيراني الذي يقدر العسكريون الإسرائيليون والأميركيون (الآن) أنه سيكون حقيقة واقعة خلال عام. وإذا لم تستجب إيران لذلك كله، فستتلوه زيادة العقوبات، فالعزل والحصار؛ وهذا إن لم يحدث انفجار قبل ذلك في مكان ما يؤدي إلى حرب شاملة.

ماذا فعل الأميركيون حتى الآن لإرغام إيران على الإصغاء أو الانفجار باتجاه الداخل أو الخارج؟

ـ أول ما فعلوه ولا يزالون مستمرين فيه منذ مجيء أوباما للرئاسة محاولة إزالة «صورة العدو»، بحيث لا تستطيع إيران في سياستها الخارجية وفي التعبئة الداخلية، الاستناد إلى العدوانية الأميركية اللفظية أو الفعلية، في التصرف أو التبرير والتسويغ، وفد ذكر ذلك أوباما علنا في خطابيه الموجهين للداخل الإيراني، وفي أحاديث شتى وكلمات(منها كلمته بالقاهرة)، كما تابعه مسؤولون سياسيون وعسكريون. وحتى عندما يتذمر الأميركيون من تصرفات منسوبة للإيرانيين أو عملائهم؛ إنما يعرضون تذمرهم بصيغة الشكوى لا الاتهام الفظيع.

ـ واستغل الأميركيون والأوروبيون الأحداث التي تلت الانتخابات الرئاسية، ليعرضوا للجمهور الإيراني، وللعالم، صورة للنظام الإيراني، تجرده من أي دعوى دينية أو تحررية، وتصمه بالسمات التي عانت وتعاني منها أنظمة في العالم الثالث، ومنها نظام صدام حسين، خصم إيران اللدود في الثمانينات. فهو بحسب ما ظهر للإعلام الغربي وللمسؤولين الغربيين نظام قامع لشعبه، ومعاد لقيم العالم المعاصر، ويقيم سياساته على القوة وأجهزة الأمن(= الحرس الثوري) ليس تجاه الخارج فحسب؛ بل وتجاه الداخل والشعب.

ـ وانسحبوا أخيرا من المدن العراقية، وعرضوا إيران (والقاعدة) لإغراء ممارسة العنف والاغتيالات، وليس ضد الأميركيين المتحصنين في قواعدهم؛ بل ضد العراقيين.

ـ ويتوقع الأميركيون أن تسارع إيران، دفاعا عن النووي، وصرفا للأنظار عما يجري بالداخل وإظهارا لقوتها الإقليمية، إلى ممارسة الضغوط الأمنية والسياسية في سائر امتداداتها، ومن العراق، إلى لبنان، فإلى آسيا الوسطى، وباتجاه أفغانستان وباكستان. ثم إن هذه الضغوط المتبادلة (ما معنى أن تسارع أذربيجان جارة إيران وخصمها لأسباب كثيرة، إلى توثيق العلاقات مع إسرائيل؟) إن لم تصل من جانب حزب الله إلى تحرش بإسرائيل؛ فإن اليمينيين الموجودين في السلطة بإسرائيل الآن، قد يقومون من طرفهم بالتحرش بالحزب، لمواجهة الضغوط التي يتعرضون لها من جانب إدارة أوباما بشأن المفاوضات مع الفلسطينيين وسورية؛ وذلك لتغيير الموضوع والأجواء.

ـ وقد بذل الأميركيون في الشهور الماضية كل جهد ممكن لدفع النظام في سورية باتجاه أحضانهم هم بعيدا عن إيران. وكانت إدارة بوش قد حاولت ذلك من خلال تركيا. لكن تركيا ما كانت مهتمة بفصل سورية عن إيران؛ بل بفك الحصار عن النظام بسورية، ودفعه للتصرف بشكل طبيعي تجاه جيرانه؛ وهو الأمر الذي حاولته فرنسا أيضا في عهد ساركوزي. أما في عهد أوباما فقد حصلت سورية على ما كانت تطالب به من سنوات: الرعاية الأميركية المباشرة. وها هو السفير الأميركي ـ الذي غادرها قبل 4 سنوات – يعود إليها. وها هي سورية تؤكد استقلالية قرارها (تجاه من؟!)، وتظهر استعدادا للتعاون في الملف الفلسطيني، وفي الاستقرار في لبنان، وفي الحيادية بل الصداقة تجاه النظام بالعراق. كما تريد علنا العودة للتفاوض مع إسرائيل، بعد أن توقف ذلك منذ الحرب على غزة.

هل تستجيب إيران للتحدي الأميركي، فتمد برؤوسها الأمنية، وتخرج لمصارعة الولايات المتحدة، كما فعلت في السنوات الماضية؛ وبذلك تصبح مكشوفة بالخارج، كما انكشفت بالداخل؟ إن خرجت إيران الآن لمنع الملاعبات والمتغيرات لغير صالحها؛ فإنها لا تكون عائدة لسلوكها السابق. إذ بعد العام 2001 كانت الولايات المتحدة هي التي خرجت جريحة بعد هجوم «القاعدة» عليها. وبخروجها «لمكافحة الإرهاب» بالمنطقة الآسيوية والشرق أوسطية، بررت لكل من إيران وإسرائيل الخروج أيضا للولوغ في الفرائس التي خلفتها، وللانتشار كما انتشرت، تارة بموافقة إدارة بوش (كما في حالة إسرائيل)، وطورا دونما موافقة أو باستنكار (كما في حالة إيران). أما الوضع الآن فهو مختلف تماما. فالولايات المتحدة هي التي تدعو للعودة للقواعد وللدبلوماسية والمفاوضات وللتوافق والحوار. وكل الآخرين مدعوون للتلاؤم مع السياسات الجديدة. والمنزعجون من دعوات التلاؤم والانضباط إنما هم بقايا «القاعدة» وإسرائيل وإيران. والانزعاج من «التوافقية الزائفة» للولايات المتحدة ـ كما قال متحدثو «القاعدة» ـ يتجلى من جانبها اليوم في بلدان شبه القارة الهندية، وفي الصومال، وفي العراق. وإيران أيضا شديدة الضيق الآن؛ ليس بسبب «التوافقية الزائفة» للولايات المتحدة فقط؛ بل ولأنها تعتبر أن «السياسات الأميركية الجديدة» تحاصرها: بالاضطراب الحاصل في داخلها بعد انتخابات الرئاسة، وبالاتجاه السوري للحضن الأميركي، وباتجاه حماس للتوافق مع فتح برعاية مصر، والموافقة على حل الدولتين، وبخسارة حلفائها للانتخابات في لبنان، وأخيرا بخروج الأميركيين من المدن العراقية نشرا لوهم انتهاء الاحتلال. وها هم الأميركيون ينشرون أخبار الإقبال على التفاوض مع إيران، ولا تزال جيوشهم منتشرة من حولها من الخليج إلى المحيط الهندي، ومن العراق إلى أفغانستان، فإلى آسيا الوسطى والقوقاز. وكل ذلك، يضاف إليه احتمال زيادة العزل والعزلة والحصار؛ بحجج مختلفة منها النووي، ومنها مساعدة الإرهاب، ومنها أخيرا ديكتاتورية النظام وعدوانيته تجاه شعبه، وليس تجاه الجوار وحسب!

هل يُخرج ذلك إيران عن طورها، فتعرض عن عروض الحوار باعتبارها أفخاخا؟ وتتحرك في الخليج، وتؤزم في لبنان مثلا؟ إن خروج الأميركيين من المدن العراقية وتركها «بين إيران والقاعدة»، اختبار كبير لقدرة إيران على عدم الخضوع للإغراء أو للاستفزاز أو الاستدراج! لكن في كل الحالات، وبعد كل ما جرى؛ فإن زمام المبادرة لم يعد بيدها.