مرحبا بوباء الجو

TT

في تعارض مع نصيحة نائب رئيسنا، غامرت بخوض العالم المصاب بالجراثيم، حيث اضطررت للتنقل بسبب ارتباطات سابقة، وفي أثناء ذلك، أحاط بي غرباء ربما لم يغسلوا أيديهم في وقت قريب. أما يداي، فقد أصابهما الجرب قطعا بعد أن اضطررت لفركهما في أيدي أشخاص كثيرين حرصوا على تهنئتي بعيد ميلادي. والآن، وبينما أكتب هذا المقال، أجلس في منطقة معزولة صغيرة محاطة بجدران تفصلها عما حولها داخل مطار ميامي الدولي. وتناولت لتوي جرعة ثانية من عقار «إيموغو»، وهو عبارة عن مجموعة من الفيتامينات والمعادن التي تعزز جهاز المناعة، و«يشيع استخدامه بين المشاهير»، حسب الوصف الوارد على العبوة.

وحاولت أن أحدّ من معدل تنفسي قدر الإمكان. وحتى الآن، لم أرتد قناع حماية من الجراثيم على الوجه، لكن حقائبي تعج بعشرة أنواع من الأقنعة المخصصة لحماية الجهاز التنفسي، التي تبدو في مظهرها على درجة من البشاعة، كافية لإخافة الجراثيم الموجودة لدى الآخرين؛ ودفعها لتجنبي.

تلك هي الحياة على الطريق في «عصر الأوبئة»، حسب العنوان الرئيسي الذي خرجت به صحيفة «وول ستريت جورنال»، عندما بدأت رحلتي. في اليوم ذاته، خصصت «واشنطن بوست» ما يقرب من الصفحتين لتناول الفيروس الذي لم يعد ينبغي أن نطلق عليه فيروس «إنفلونزا الخنازير»، احتراما لأصدقائنا الخنازير الذين يجري ذبحهم دون داع. من الواضح أننا لا نصاب بإنفلونزا الخنازير بسبب الخنازير. ومع ذلك، يبدو أنه من الأسهل الإصابة بالذعر حيال شيء ما يحمل اسم وحش يشتهر بسلوكه غير الصحي عن الشعور بذات الانطباع تجاه شيء يحمل اسم أقل إثارة للذعر، مثل H1N1، وهو الاسم الرسمي للفيروس الذي يعتقد أنه يشكل كارثة. ومع ذلك، علينا الاعتراف بأن هذا الفيروس ما يزال من الممكن أن يبدي وجها مفزعا، لكن حتى هذه اللحظة لا يبدو H1A1 أخطر من الإنفلونزا العادية. ويتسم هذا النمط من فيروس الإنفلونزا بمعدل إصابة شبيه بمعدلات الأنماط الأخرى.

ورغم ذلك، فإن القصص التي ألفناها جميعا عنه تثير الهلع. وبالفعل، أصابنا الهلع؛ مما انعكس على إغلاقنا المدارس وامتناعنا عن جولات التسوق والتصرف بغرابة بوجه عام خلال الفترة الأخيرة. على سبيل المثال، خلال تنقلي حملت في أمتعتي كمية هائلة من العقاقير تكفي لتلبية احتياجات جزيرة صغيرة بمنطقة الكاريبي.

وداخل المرحاض، لاحظت أن السيدات على الجانب المقابل يغسلن أيديهن، بينما تمتم شفاههن ببعض العبارات. وعلى متن الطائرة، أخرجت السيدة الجالسة إلى جواري عبوة منظف «بوركس» خاصة بها، في الوقت الذي كنت أنزع غطاء عبوة للتطهير الفوري لليد خاصة بي. وتبادلنا أن وهي ابتسامة تعبر عن التفهم والشعور بالحرج. وأثناء مرور سيدة ورضيعتها إلى جوارنا، أدارت الصغيرة وجهها باتجاهنا، وأخذت تسعل بشدة. ووجهَت حديثي إلى السيدة الجالسة لجواري، قائلة: «إنها رائعة، أليس كذلك؟». وفي لحظات، ظهر الخوف على وجهينا.

وفجأة، شعرت بحاجة ماسة للسعال، بسبب امتلاء حلقي بغبار، إلا أنني لم أجرؤ على فعل ذلك، خشية أن ينقلب باقي الركاب ضدي، ذلك أنه حتى مسؤول برتبة مارشال جوي سيعجز عن إنقاذي من أيدي الركاب الذين لن يترددوا إزاء إلقائي من الطائرة. ولسبب مبهم، اعترفت بهذا الشعور للسيدة الجالسة لجواري، ربما أملا مني في أن ترفق بحالي عندما ينقض عليَّ الآخرون. وأجابتني بأنها تشعر برغبة في السعال هي الأخرى. والآن، أصبحنا متضامنتين في كبتنا لرغبتنا في السعال. وقمنا بغسل أيدينا مجددا، وغلبنا الضحك من أنفسنا وما نفعله. وليست لديَّ أدنى فكرة عما إذا كانت هذه السيدة لا تزال على قيد الحياة، أم لا. أما رحلتي الجوية التالية، فغلبني خلالها الشعور بأني أشبه بقطعة خبز محمص، حيث كانت الطائرة ضيقة ومزدحمة ودرجة الحرارة فيها مرتفعة. كانت الطائرة متجهة إلى منطقة كي ويست، وكان جميع الركاب من البالغين المتجهين الذين يسعون ـ في معظمهم ـ وراء الاستجمام.

والملاحظ أن التنقل جوا اتسم هذه المرة باختلاف واضح، وهو انعدام صور الاهتمام والرعاية. واقتصر دور المضيفين على السير عبر ممرات الطائرة، وعرض الجعة والخمر. خارج النافذة، ظهرت السماء واسعة أمامي، وتحولت المياه إلى لون ليس له اسم محدد حتى الآن، ربما يمكن أن ندعوه «الأزرق السماوي».

أما في كي ويست، وبعد مرور يومين، لم يرد إلى علمي أية أخبار على الإطلاق عن الوباء. وسرح ذهني في تساؤلات تعكس شعوراً بالرفاهية، مثل الأدلة العلمية حول وجود خالق للكون، وتأثير رينولد نيبور على باراك أوباما، بينما غابت الإنفلونزا عن اهتماماتي. رغم أن الجهل قد لا يكون نعمة، فإنه فيما يتصل بفيروس H1N1، كلما تضاءلت معلوماتك، كلما كان ذلك أفضل لك.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ(«الشرق الأوسط)»