أزمة الديمقراطية من خلال أحداث إيران

TT

عنوان المقال يُفرح الدكتاتوريين للوهلة الأولى، ولذا نسارع إلى قطع فرحتهم الوهمية بالتوكيد على أن أزمة الديمقراطية ألطف وأروح وأسمح من سجن الدكتاتورية وغلظتها وعتوها.. فالنور الخافت أفضل ملايين المرات من الظلمة المطبقة.

وإذا كان مفهوم إدانة الدكتاتورية والاستبداد يتطلب تأصيلا فهذا هو التأصيل.

لقد أدان القرآن ـ بإطلاق ـ الطغيان والتجبر، أي الدكتاتورية والاستبداد :

1- إدانة الطغيان وتقبيحه والتبشير بقصمه: «ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد».

2- إدانة التجبر:

أ ـ «وخاب كل جبار عنيد».

ب- «كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار».

ج- «وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد».

حصحص الحق، وعلمنا ـ بيقين - أن الدكتاتوريين خائبون أبدا، وأنهم لا يحق لهم أن يفرحوا بنقد أزمات الديمقراطية.

ثم ننعطف إلى أصل الموضوع وسياقه وهو أزمة الديمقراطية.. ومن مظاهر هذه الأزمة وصورها:

1- وصول الغلاة الصهيونيين إلى السلطة في إسرائيل بنسب عالية من خلال انتخابات ديمقراطية تشريعية، بمعنى أن أكثر الإسرائيليين عدوانية وكراهية للسلام، وتعصبا دينيا (مطالبتهم بيهودية الدولة العبرية مثلا).. هؤلاء وصلوا إلى الحكم عن طريق الديمقراطية..ومن دلالات ذلك: أن الديمقراطية لا تأتي بالأعقل والأفضل دائما.. وقد يقال: هذا هو خيار الشعب الإسرائيلي.. ونقول: وهذه هي الأزمة: أن يتاح - ديمقراطيا - للغلاة: أن يختاروا غلاة أمثالهم للبرلمان ثم للسلطة: للتعاون على الإثم والعدوان.

2- هذه الصورة تستدعي صورة أزمة ديمقراطية أخرى وهي أزمة الديمقراطية في الثلاثينات من القرن العشرين الماضي. فقد وصل هتلر وحزبه إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية: لم يقل أحد إنها مزورة أو ملفقة، بل كانت انتخابات صحيحة: بالمقياس التقني، والمعيار القانوني.

فماذا فعل هتلر الديمقراطي المنتخب؟!.. لقد أشعل ـ بتفويض شعبي حر «!!!» كما يقال ـ حربا كونية دمرت أوروبا، وقتل فيها ملايين الناس، وشوهت وعوقت ملايين أخرى.. ثم دمر هتلر بهذه الحرب بلاده التي انتخبته، ثم انتحر!!

3- ما معنى ذلك؟.. معناه أن الديمقراطية: ليست حلا لكل مشكل، ولا هي (دواء لكل داء) كما يحاول أن يصورها غلاة فيها: في غير بيئة، وغير زمان.. نعم.. هذا هو المعنى المقصود ـ بالضبط ـ.. وليس المعنى: أننا نعيّر الآخرين بخياراتهم السياسية والفلسفية. فهذا التعيير منقوض بحجتين اثنتين:

أ- حجة أن منهجنا قرر حرية اختيار الشرائع والمناهج لكل أمة: «لكل أمة جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة».

ب- حجة أن الديمقراطية ـ على ما فيها من نقائص وعيوب ـ أفضل من القهر والتجبر والاستبداد والدكتاتورية.

4- ما مناسبة هذا الكلام عن (أزمة الديمقراطية)؟

مناسبته: أزمة الديمقراطية في إيران.. فمن الظواهر التي لم يكترث بها أحد ممن علقوا على ما جرى في إيران خلال الأسابيع الماضية: ظاهرة (التأزم الديمقراطي).

لقد خاض مرشحون أربعة الانتخابات الرئاسية هناك.. ولكن لم يخوضوها على (أساس حزبي)، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية.

وهذه أزمة.. أولا: لأن الأحزاب المتعددة ركن ركين من الديمقراطية، إذ لا تتصور ديمقراطية بلا أحزاب.. ثانيا: لأن الديمقراطية الغربية تعتمد (المعارضة الدائمة المنظمة) التي يمارسها الحزب الذي فشل في الحصول على الأغلبية التي تؤهله للحكم.. ولو كانت الحزبية موجودة في إيران لتمكن مير حسين موسوي من تبوؤ مكان المعارضة المنظمة، ولاسيما أنه حصل على 13 مليون صوت من مجمل أصوات المقترعين على مستوى إيران.. ومن هنا، فإن خلو الديمقراطية الإيرانية من نظام المعارضة المنظمة، جعل موسوي والذين معه يبدون وكأنهم (مارقون من النظام)، وكأن أصوات الـ 13 مليون إيراني لا قيمة لها ولا وزن!!.. وهذه أزمة ديمقراطية.

لماذا هذا الخلل في الديمقراطية في إيران؟.. لماذا أغفلت (التعددية الحزبية) التي هي أصل من أصول الديمقراطية: بمفهومها الغربي؟.. في البداية كانت هناك أحزاب.. ومنها الحزب الجمهوري الذي كان يمثل الدولة أو تمتطيه الدولة.. بيد أن التجربة عطلت في وقت مبكر وفق حسابات تقول: إن التنافس الحزبي يفتت وحدة الأمة، يضاف إلى ذلك سلبيات أخرى عديدة.. عطلت تجربة الحزبية على الرغم من أن الدستور الإيراني يسمح بها في مادته السادسة والعشرين والتي تقول: «تتمتع الأحزاب والجمعيات والهيئات السياسية والنقابية.. بالحرية بشرط ألا تنقض أسس الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية وقيم الإسلام وأساس الجمهورية الإسلامية».

ومن توابع أزمة الديمقراطية ـ في هذا السياق ـ: هذه الأسئلة العويصة:

1- في النص الدستوري الإيراني الآنف: مفهوم: أن قيام الأحزاب مشروط بألا ينقض (أساس الجمهورية الإسلامية) فما هو أس الأسس في هذه الجمهورية؟ هو (ولاية الفقيه).

2- بحسبان ولاية الفقيه هي أصل الأصول في وجود الجمهورية فإن السؤال هو: إذا قام حزب لا يؤمن بولاية الفقيه فهل يسمح له بالعمل السياسي العلني؟.. لا لن يسمح له بذلك بموجب ذلك النص الدستوري الذي قرأناه منذ ثوان.. ومما لا ريب فيه أن هذا الحرمان أو الحظر يتناقض مع جوهر الفلسفة الديمقراطية الغربية التي تقوم على العلمانية، وعلى فصل الدين عن الدولة.

3- إذا قام حزب على أساس ولاية الفقيه ثم لم يصوت الشعب الإيراني لصالحه، فهل يفهم من ذلك أن هذا الشعب يرفض الإسلام؟

من قال: نعم، إن رفض برنامج حزب ولاية الفقيه هو رفض للإسلام ذاته، فإنما يغامر هذا القائل بحصر الإسلام كله في ولاية الفقيه، على حين أن الإيمان بهذه الولاية مسلّم به عند الشيعة الإمامية جميعا، فهناك معارضون لهذا الاجتهاد الفقهي السياسي منهم ـ مثلا ـ: آية الله علي السيستاني، وآية الله شريعت مداري، والشيخ محمد جواد مغنية وغيرهم، فضلا عن الأغلبية السنية الكبرى التي لا تقر هذا الاجتهاد بداهة.. وبذا يتوكد أن حصر الإسلام في ولاية الفقيه، وأن من يرفض الثانية يرفض الأولى إنما هو قول (يصغّر) الإسلام، ويحصره في (برنامج انتخابي) لحزب ما.. وهذا الخطأ الجسيم يتورط فيه كل حزب إسلامي ـ سني أو شيعي ـ يحصر الإسلام في شعاره أو برنامجه ويفاصل الأمة على أساسه. فالمسلمون قد يرفضون برامج الأحزاب الدينية كافة وهم محتفظون بإسلامهم: إيمانا بأركان الإيمان والإسلام، وحبا لله ورسوله وطاعة لهما. ومن هنا قال الشافعي: الإسلام قال الله وقال رسوله، ورفض حجة تقديم سلوك المسلمين ـ في أي عصر ـ على نصوص الوحيين المعصومين.

أما من قال: لا.. لا يُعد رفض برنامج حزب ولاية الفقيه: رفضا للإسلام نفسه، فإن قوة هذا يعني: أنه في ظل نظام ولاية الفقيه، يمكن التخلي عنه باسم الديمقراطية.. وهذه أزمة أخرى بلا شك.

والعبرة السياسية والحضارية من هذه الأزمات هي:

أ‌- التحرر من وهم: أن الديمقراطية (داء لكل دواء)، إذ في ظل الديمقراطيات المختلفة نشأت أمراض وبيلة عجز أساطين الديمقراطية عن علاجها (راجع مثلا ما كتبه ألفن توفلر في هذا المجال).

ب‌- إن بين الإسلام وبين الديمقراطية بمفهومها الغربي محاولة غير ذكية: بالمقياس العقلي والواقعي والمعرفي.

ج- اعتماد نظرية ألكسيس توكفيل (الذي يوصف بأبي الديمقراطية) وخلاصة نظريته هي: استخلاص المفاهيم الصحيحة من الديمقراطية)وتكييفها) مع قيم وثقافة كل مجتمع من المجتمعات البشرية المتنوعة التقاليد.

د ـ فتح باب الاجتهاد الفكري والسياسي بهدف استنباط صيغ سياسية جديدة تجمع بين قيم الشورى ومفاهيم الديمقراطية (المجردة من هالة الغلو والتقديس).

هذا ضروري، لأن قفل باب الاجتهاد في هذا المجال إنما هو تحجر عقلي وسياسي وحضاري.