تأمل صراع التقاليد والحداثة

TT

الصراع بين الكلاسيكية والتحديثية هو تصادم قلق فريقين. حكماء أي أمة قلقون على فقدان التقاليد المتوارثة التي تحفظ شخصيتها وملامحها الثقافية والاجتماعية التي تترجم إلى مواطنة تشعر الفرد بالانتماء. وعلى الطرف الآخر يجزع التحديثيون من افتضاح حقيقتهم كجهلاء وسطحيي التفكير يأتون بما لا جذور له في تربة الأمة الاجتماعية، فيخفون افتقارهم لموهبة الإبداع وراء التكنولوجيا المعقدة.

كنت أتابع هجوم المعمريين التحديثيين على ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز لتزعمه حملة الحفاظ على تراث الأمة المعماري من معاول الهدم، ويتهمونه «بتدخل غير ديموقراطي» لعجزهم عن إقناع الناس باستبدال تراثهم المعماري الذي بنته يد «اسطوات» مبدعين، بأبراج القبح الزجاجية التي تركبها الأوناش الضخمة.

وضعت الديلي تلغراف التي أتابع فيها معركة الأمير ضد قوى الجهل عند وصول السيارة الإسكندرية ملاحظا إحراز بعض القوى نصرا جديدا ضد حكماء الكلاسيكية الذين يحاولون حماية ملامح عروس البحر المتوسط من مخالب تحالف جحافل الجهل وجشع أصحاب الثروات .

عاصمة ذروة الحضارة الهيللينة (500-300 ق.م.) محافظها الجديد لا خبرة له بالمدن الكلاسيكية فشن حربا على شوارع رصفت قبل 2341 عاما؛ مستبدلا أحجار البازلت الأثرية – وبعضها من عصر الإسكندر الأكبر (356-323 ق.م.) - بالخرسانة القبيحة ومصيرها التفتت في 10 أعوام (ونرجو أن يكون هناك حصر كمي لثروة تقدر بالملايين من بازلت ملك الشعب المصري).

قبح الحداثة أضاف ثقلا لقلبي، فقد وصلت لتجهيز جنازة شقيقتي التي فقدت معركة 28 شهرا مع السرطان، خاضتها بشجاعة وبنكتة ساخرة لم تنل منها قسوة العلاج بالكيماوي واشعة الراديو وسلسلة عمليات جراحية.

رقصة تعاون وصراع التقاليد والحداثة غرست أظافرها بالذهن والقلب في أيام عصيبة.

فالموت عند المصريين قدسية هي جزء من حضارتهم القومية بتقاليد جنائزية لم يطرأ عليها سوى طفيف التغيرات عبر آلاف السنين رغم تغيير ديانة أغلبية الشعب مرتين: من آمون - رع إلى المسيحية ثم الإسلام. والمصريون على اختلاف دياناتهم يحيون ذكرى الأربعين والأصل أن تحنيط الجثمان كان يستغرق 39 يوما، والدفن في اليوم 40. ويسود الاعتقاد بتحليق الروح فوق المقبرة كل يوم خميس، يوم زيارة المصريين لمقابر موتاهم، حتى اليوم 40 معتقدين انه يوم مغادرة الروح الأرض للمرة الأخيرة.

حداثة وسائل الاتصال أدخلتنا في سباق مع الزمن للالتزام بتقاليد تحضير الجنازة وتجهيز مدفن الأسرة في الإسكندرية لاستقبال شقيقتي التي توفيت في مستشفى مدينة لوبيك 50 ميلا شمال هامبورغ، وجمع شمل الأسرة من كندا وأميركا وبريطانيا والبرازيل.

بالتليفون والانترنت والقمر الصناعي اشتبكت الخطوط الساخنة بين لندن والإسكندرية والقاهرة ولوبيك ومونتريال ونيويورك، وسفينة قبالة ساحل البرازيل محل عمل ابن شقيقتي فانتقل بهليوكبتر لمطار ريو دي جانيرو ومنها إلى جانب أمه التي عجزت احدث أجهز التكنولوجيا الطبية عن مساعدتها في معركة الحياة والموت، لكنها ساعدت على نقلها من لوبيك إلى هامبورج إلى فرانكفورت إلى القاهرة إلى الإسكندرية، حيث شيعت الجنازة من مسجد القائد إبراهيم الشهير بالأزاريطة.

تقاليد الوفاء بين الأصدقاء مكنت الأسرة من إتمام الجنازة في 56 ساعة منذ لحظة إسلام شقيقتي الروح وهو إنجاز استحال إتمامه دون دعم من اعتبر صداقتهم أعظم مكسب في حياتي.

أصدقاء وقت المحنة وأول من قدم العزاء الإنسان النبيل الأمير فيصل بن سلمان رئيس مجلس إدارة الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، والصديق القديم عثمان العمير ناشر ايلاف، والصديق الكريم المخلص عمرو بدر، والصديق الدائم الوفاء الدكتور وفيق مصطفى رئيس شبكة العرب بحزب المحافظين البريطاني وزميلي بول هيلارون.

تناقض وتكامل الحداثة والكلاسيكية ظهر في التقاليد الجنائزية. المسجد تقليدي، محل اختيار الأسر السكندرية العريقة لتشييع الجنازات مما دفع إدارته إلى بناء قاعة مخصصة للغرض تنسجم فيها التقاليد مع الحداثة: أعمدة تقليدية من معمار الفترة الفاطمية (909- 1171 ميلادية) وثريات القرن 18، لكنها كهربية بل الشموع، وأجهزة تكييف هواء توارت فتحاتها وراء مشربيات كنساء العصر الفاطمي يراقبن عالم الرجال.

ولم يتغير في التقاليد الجنائزية المصرية سوى انتقالنا بالسيارات بدلا من السير إلى مدافن الأسرة في «العمود» ـ أقدم مدافن المدينة وتعود لعصر ما قبل بناء الإسكندرية نفسها، واكتسبت اسمها من عمود السواري، فوق ما بقي من السرابيوم، مكتبة الإسكندرية التاريخية التي تحولت لمقبرة.

أفقت من خشوع لحظات الدفن التقليدية على وقاحة الحداثة بقبح أصوات حراس المدافن يقتحمون ستائر الحزن طالبين البقشيش بشكل فج (رغم تخصيص شقيقي الدكتور عماد، وابن عمتي كامل بك مبلغا سخيا شهريا لهم لرعاية مدفن الأسرة)، وقبح زعيقهم يشوه آيات قرآنية يخطئون في كلماتها. وكدت أفقد «برودي الانجليزي» (تهمة ألصقها بي الأقارب المصريون لأنني كبت مشاعري وراء «حياتك الباقية.. مرسي لحضورك» وابتسامة حيادية لتحية من يقدم التعزية) فألهب ظهور الأشقياء الانتهازيين المتسولين بعصاي لولا حاجتي إليها للتوكؤ بسبب آلام الظهر المبرحة من رحلة سفر 13 ساعة مستمرة والسفر أربع مرات لألمانيا في ستة أسابيع.

بلغ صراع التقاليد والحداثة ذروته في المساء، حيث وقفنا نتقبل التعازي. وحسب التقاليد المصرية يتناوب مقرآن تلاوة القرآن كاملا على أربعة أجزاء تخللها ثلاث استراحات. أرغمتني آلام الظهر المبرحة على كسر التقاليد متقبلا التعازي جالسا. ورغم أن الفراش (بتشديد الراء) ـ أي المقاول المسؤول عن تغطية أرضية القاعة وجدرانها بالأبسطة المزركشة ـ وصبيانه استمروا في إحضار المشروبات لي في كل استراحة بعد أن لاحظ التهامي للأقراص المهدئة للألم، فإنه لم يعر إلحاحي عليه تخفيض صوت الميكروفون أي اهتمام.

القاعة أصلا مصممة كالمساجد والمعابد لتوزيع موجات الصوت acoustics بين الأعمدة بشكل يغيب تماما أي حاجة لمكبر الصوت، ولم أجد تبريرا معقولا لتشغيله سوى تضخيم الفراش لفاتورة حسابه. تحول الاختراع الحديث إلى أداة تعذيب في يد شخص سادي (لم أتعرف أبدا عليه) فكلما همست في أذن الفراش متوسلا بخفض مفتاح الصوت، كلما علا مكبر الصوت المعلق فوق المئذنة ليقصف آذان سكان المنطقة بوحشية تجعلهم ولا شك يلعنون أصحاب العزاء بدلا من قراءة الفاتحة على روح الفقيدة.

حاولت، دون جدوى، إفهام الشقي أن انتقال الموجات من مكبر الصوت فوق المئذنة إلى ميكروفون المقرئ حاملة نهاية الكلمة السابقة لتختلط ببداية الكلمة الجديدة في مكبر الصوت مرة أخرى يؤدي لتكرار الصدى فلا تتعرف الأذن على الكلمات رغم جمال صوتي المقرئين.

لكن الفراش وصبيانه وحراس المقابر ومهندسي شوارع الإسكندرية اليوم هم نتاج عصر تشويه الحداثة الوقحة لجمال التقاليد.