الدين.. والنعمة الأميركية

TT

بعد أكثر من عام من الآن، سوف يظهر كتاب يتحدث عنه الجميع. إنه كتاب «النعمة الأميركية: كيف يعيد الدين تشكيل حياتنا المدنية والسياسية،» من تأليف روبرت بوتنام وديفيد كامبل، والذي بدأ يحدث صخبا حوله بالفعل. ويعد بوتنام، مؤلف كتاب: «لعب البولينغ منفردا: انهيار وصحوة المجتمع الأميركي،» خبيرا أكاديميا بارزا في مجال الحياة المدنية الأميركية. وكامبل هو وريثه الصاعد. وسوف يتسبب الكتاب، الذي لم ينتهيا من تأليفه بعد، في إحداث حالة من القلق البناء لدى الجميع.

وفي مؤتمر عقده منتدى بيو للأديان والحياة العامة للصحافيين في الفترة الماضية، لخص بوتنام ما توصل إليه كتاب «النعمة الأميركية»، بناء على أبحاث ما زالت قيد التنقيح والتصحيح. وعلى خلاف توقعات العلمانيين المتشددين، يؤكد بوتنام قائلا: «إن المواطنين الأميركيين المتدينين ألطف وأسعد وأفضل حالا» إنهم أكثر كرما في بذل وقتهم وأموالهم، ليس فقط من أجل القضايا الدينية ولكن أيضا في سبيل قضايا علمانية. وهم ينضمون إلى المزيد من الجمعيات الخيرية، ويحضرون المزيد من الاجتماعات العامة، بل هم أكثر استعدادا للسماح لآخرين بتجاوزهم في الصفوف. فالأميركيون المتدينون أكثر انخراطا في الحياة الاجتماعية من غير المنتمين إلى أي دين بنسبة ثلاثة إلى أربعة أضعاف.

وعلى خلاف توقعات العديد من المتدينين، لا تتعلق هذه الفاعلية بمحتوى العقيدة. ولا تتنبأ الأديان بالسلوك الاجتماعي، ولكن يتنبأ به كونه جزءا من المجتمع. فيصبح الأشخاص مشاركين في الأنشطة الاجتماعية ومساهمين فيها عندما يكون لديهم أصدقاء يخترقون عزلتهم ويدعونهم إلى المشاركة. ويقول بوتنام إن الأصدقاء المتدينين «أكثر قوة وطاقة». ولكن انحسر هذا النوع من الانتماء الديني بين الكثيرين منذ الحرب العالمية الثانية، وخاصة بين الشباب. ولم يكن التغيير تدريجيا أو أحادي البعد، بل حدث، على حد قول بوتنام، في صورة «صدمة واحدة وتابعين لها».

وقد جاءت الصدمة في الستينات، حيث كان المحافظون يؤكدون أن فلسفة الجنس والمخدرات والروك أند رول هي البديل للانتماء الديني (على الرغم من أن بعض المتدينين قد يعترضون على الجانب المتعلق بالموسيقى). وكان مواليد الخمسينات أقل تدينا بكثير من آبائهم عندما كانوا في أعمارهم. والنتيجة المحتملة لذلك، كما يقول بوتنام، هي «تغير سريع في الأخلاق والعادات».

وقد أثر انحسار الالتزام الديني على جميع الفئات تقريبا بصورة متساوية، ولكنه كان أقل حدة بين الإنجيليين. وعلى الرغم من عدم زيادة نسبتهم كثيرا بين سكان المجتمع الأميركي، إلا أن الإنجيليين استطاعوا زيادة النسبة التي تمثلهم بين المتدينين في أميركا. ووفقا لما ذكره بوتنام، نظم «أصحاب المشروعات» الدينية أمثال جيري فالويل ردة فعل دينية محافظة ضد فترة الستينات، فيما تحول إلى اليمين المتدين، وذلك أول توابع الصدمة. ولكن تولد عند ذلك رد فعل آخر، أو التابع الثاني للصدمة. ويقول بوتنام إن تسييس الدين من جانب اليمين المتدين قد تسبب في تحول العديد من الشباب في التسعينات ليكونوا ضد الدين في حد ذاته، متبنين فكرة: «إذا كان هذا هو الدين، فلست مهتما به». ولا يمكن توقع الآراء الاجتماعية لهذه المجموعة الشابة تماما. وقد حققت حركات مناهضة الإجهاض وحقوق المثليين مكاسب لها. ولكن الأميركيين في العشرينات من العمر حاليا أكثر علمانية من مواليد الخمسينات عندما كانوا في المرحلة العمرية ذاتها. وهناك من 30 إلى 35 في المائة من غير المنتمين دينيا. ويطلق بوتنام على ذلك «التطور المدهش». وكما توقع العديد من الليبراليين، لم يكن اليمين المتدين في مصلحة الدين. وكانت نتيجة الصدمة وتابعيها هي الاستقطاب. ولم يتغير المستوى العام من التدين في أميركا كثيرا على مدار الأعوام. ولكن كما يقول بوتنام: «أصبح المزيد من الناس متدينين بشدة ومزيد آخرون غير منتمين إلى دين على الإطلاق». وقد أصبحت تلك المعتقدات «مرتبطة بسياسات حزبية». «لقد أصبح هناك عدد أقل من الليبراليين في صفوف الكنائس، وعدد أقل من المحافظين الذين لا يرتادون الكنائس».

وتوجد هنا مضامين سياسية كبيرة. فيجب أن يحفز الديمقراطيون غير المنتمين إلى دين، وفي الوقت ذاته يجب ألا يبعدوا الناخبين المتدينين، وهو ما حققه المرشح باراك أوباما بدقة. ويجب أن يحافظ الجمهوريون على قاعدتهم من مرتادي الكنائس، وفي الوقت ذاته جذب الشباب، وهي المهمة التي لم يبدأوا في اكتشافها بعد. ولكن ينظر بوتنام إلى زيادة أعداد غير المتدينين على أنها ذروة يتبعها هبوط، وليست اتجاها دائما. وفي العموم، لا يعد الشباب علمانيين ملتزمين. «إنهم ليسوا في الكنيسة، ولكن ربما يكونون بها إذا لم تكن الكنيسة مثل اليمين المتدين.. ومن شبه المؤكد أن هناك أصحاب مشروعات دينية يمكنهم سد ذلك الفراغ عبر دين إنجيلي معتدل، دون مضامين سياسية».

وفي ساحة الأديان الأميركية المتنوعة، ربما يكون هناك طلب للرحمة والأمل والتصالح، لرسالة من الرحمة والشفاء الذي يجذب جميع الأشخاص من جميع الخلفيات السياسية. سيكون هذا ثوريا، ولكنه لن يكون جديدا.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»