معركة اليونيسكو!

TT

شهدنا في الأيام القليلة الماضية معركة حقيقية حول أكبر منصب ثقافي في العالم: المدير العام لليونيسكو. هذه المعركة تخصنا نحن العرب بالدرجة الأولى، ليس فقط لأن المرشح هو فنان عربي ورجل ثقافة كبير، وإنما لأن مسألة السلم أو الحرب، حوار الثقافات أو صدامها، هي الرهان الأساسي في نهاية المطاف لكل هذه العملية. وبالتالي فالمعركة التي دارت رحاها على صفحات جريدة «لوموند» الفرنسية العريقة بين فاروق حسني من جهة، وبعض الشخصيات اليهودية المهمة من جهة أخرى، تخص العرب جميعا وتهم الفكر العربي الإسلامي في الصميم.

الشخصيات اليهودية الثلاث التي فتحت النار على الوزير المصري هي: الفيلسوف برنار هنري ليفي، وكلود لانزمان رئيس تحرير مجلة سارتر «الأزمنة الحديثة» التي شحبت أهميتها الآن، وإيلي فيزيل الحائز جائزة نوبل للسلام. وهي شخصيات نافذة، ليس فقط على المستوى الفرنسي وإنما الأميركي والعالمي أيضا. أذكاهم وأعمقهم فكريا هو بالطبع برنار هنري ليفي، الذي لا يستهان بثقافته الفلسفية الواسعة. ولكن على الرغم من اعترافه بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة فإنه يبدو أحيانا كثيرة وكأنه مؤيد لا مشروط للسياسة الإسرائيلية. وهذا ما يؤخذ عليه عموما حتى من قبل بعض المثقفين اليهود الآخرين، وبخاصة اليساريون. أيا يكن من أمر فإنه في عز مجده الآن وهو الأقرب إلى العرب، على الرغم من كل المظاهر التي تقول العكس. لماذا أقول ذلك؟ لأنه الوحيد الذي يعود في جذوره إلى أصول عربية، فقد ولد في الجزائر عام 1948 وأمضى طفولته الأولى في المغرب الجميل. هذا في حين أن لانزمان وإيلي فيزيل من أصول أوروبية، ولا يعرفان العرب إلا عن بُعد. ثم إنه نجم صاعد وشاب، في حين أنهما على وشك الأفول عمرا وأهمية. التهم الموجهة إلى الوزير المصري هي أنه ضد التطبيع، وقد هاجم إسرائيل بعنف مرارا وتكرارا، قائلا بأنها لم تسهم أبدا في الحضارة البشرية وأن الثقافة الإسرائيلية هي ثقافة لا إنسانية، عدوانية، عنصرية، متعجرفة ومتكبرة على الآخرين. كما وهاجم اختراق اليهود لوسائل الإعلام العالمية. ومما زاد الطين بلة أنه، وهو وزير الثقافة العربي الأشهر، دعا إلى حرق الكتب العبرية في مكتبة الإسكندرية أو أي مكتبة مصرية. فكيف يمكن لوزير ثقافة أن يدعو إلى حرق الكتب؟ واستنتجوا من كل ذلك أنه إذا ما وصل شخص كهذا إلى سدة المنظمة الدولية العريقة فإن ذلك يعني نهاية اليونيسكو وغرقها لأنه مضاد للمثل العليا التي قامت من أجلها أو تؤمن بها. وخلصوا إلى القول بأنه ليس رجل سلام أو حوار بين الثقافات والشعوب. وبالتالي فينبغي علينا أن نفعل كل شيء للحيلولة دون وصوله قبل فوات الأوان. بعد أسبوع من هذا الهجوم العنيف رد الوزير فاروق حسني بمقال جيد ومتوازن وعميق على صفحات الجريدة الفرنسية نفسها. وأعتقد شخصيا أن رده كان صادقا ومقنعا للكثيرين. ولذلك فلا أستغرب وصوله إلى رئاسة اليونيسكو في الخريف المقبل، على الرغم من كل الاعتراضات والهجمات من قبل أصدقاء إسرائيل النافذين. على الرغم من اعتذاره عن حرق الكتب الإسرائيلية فإنه لم يتراجع أبدا عن دعمه للحق الفلسطيني بغية الوصول إلى منصب دولي. وهنا قال كلمات موفقة يمكن أن تصل إلى أعماق الضمير الفرنسي والغربي عموما حول التراجيديا الفلسطينية. وأعتقد أنها تفيد قضية فلسطين أكثر بكثير من كل التصريحات العنترية التي قد يصدرها هذا المسؤول أو ذاك، بمن فيهم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. وأثبت الوزير المصري أنه يعرف كيف يخاطب العقل الأوروبي والغربي عموما. وما قاله يعني كل المثقفين العرب وليس فقط وزير ثقافة مصر. فنحن جميعا نواجه التحديات نفسها ودفاعه عن نفسه وتبريره لها هو دفاع عنا أيضا وعن الصورة الحضارية للعربي والمسلم أينما كان. نقول ذلك وبخاصة أن هذه الصورة تدهورت كثيرا وتشوهت بشكل مخيف في السنوات الأخيرة. فيما يخص حرق الكتب قال إنه فتح المكتبات في أقصى القرى الفقيرة النائية من مصر وأخرج من الأمية والبؤس الثقافي الآلاف المؤلفة من المصريين، فكيف يمكن له أن يكون ضد الكتب حتى ولو كانت مكتوبة بالعبرية؟ ويمكن أن نضيف بأنها لغة سامية، أي شقيقة العربية أو ابنة عمها في نهاية المطاف. وقد كان العرب في عصرهم الذهبي، عصر بغداد والقاهرة وقرطبة، يحتضنون كل اللغات والثقافات ويصهرونها في بوتقة العروبة الكونية أو الكوسموبوليتية. ومكتبة الإسكندرية يمكن أن تعيد هذه الأمجاد إلى سابق عهدها وتكون بداية انطلاقة النهضة العربية المقبلة أو عصر التنوير العربي الإسلامي الذي طال انتظاره. وفيما يخص التطبيع الثقافي الذي يلاحقوننا به صباح مساء قال إن ذلك لن يتحقق قبل أن يعم السلام المنطقة. وهي مسألة تخص الشعوب بالدرجة الأولى ولا توجد أي شخصية عربية، مهما علت أهميتها ومكانتها، قادرة على أن تفرض التطبيع على الشعوب من فوق. من يستطيع أن يعترض على ذلك؟ أصلا إذا كان مثقفو اليهود، وفي طليعتهم برنار هنري ليفي، يريدون التطبيع حقا، فما عليهم إلا أن يضغطوا على الحكومة اليمينية في إسرائيل لكي تتراجع عن سياستها المتطرفة واللا إنسانية ضد شعب فلسطين المغلوب على أمره. ثم استخدم فاروق حسني بذكاء محاجة رادعة ومغرية في الوقت ذاته لمثقفي الغرب كلهم من يهود أو غير يهود. قال لهم بما معناه: إن المنطقة مليئة بالقوى الارتكازية المتعصبة التي تريد العودة بنا إلى الوراء، إلى صدام الأديان والثقافات والحضارات. لم يذكر الأصوليين بالاسم ولكنه يقصدهم حتما. وبالتالي فإن رفض انتخابي سيكون أكبر هدية تقدمونها لها. فانظروا ما أنتم فاعلون. وللبيان حرر!.