الانسحاب الأمريكي وانسحاب الذرائع

TT

ما انفكت هناك شكوك جمعية ألفها وركن إليها عقلنا، كونها يسيرة التفسير ولا تهتم بالتدرج والتمايز، بل تميل للقطعية في الأحكام، والتي تساعدها وتعززها تجاربنا الموقنة من الطموحات الإمبريالية لأمريكا، حيث تمظهرت هذه المرة في رفض تصديق الالتزام الأمريكي بالجداول الزمنية للانسحاب التي نصت عليها الاتفاقية الأمنية والإطارية بينهم وبين العراق، والتي هي مشككة أصلا بنفع أي عمل سياسي كمفضي للتحرير أو بقيمة أي اتفاقيات دولية عند اختلال أوزان طرفيها، لذا لم يكن من طريق لإثبات المصاديق إلا بانتظار أوان استحقاقها فكان الأول هو ما تم بالانسحاب من المدن والذي يمثل نصف الإيفاء الأمريكي الذي عليه أن يستكمل نصفه الثاني بالانسحاب النهائي من العراق بنهاية 2011.

إذ لم يكن كافيا لإقناع المشككين بدلائل تؤكد وتوجب الإيفاء الأمريكي بالانسحاب من مثل؛ تغيير الإدارات من جمهورية إلى ديمقراطية رافضة للحرب ومخطئة التدخل، ولا بالأزمة الاقتصادية العالمية المستوجبة التخفف من التكاليف، ولا بضرورة تصحيح صورة الولايات المتحدة بعد أن تردت بفعل التدخل وتداعياته، ولا باليقينية التي تم الوصول إليها وهي أن الأسلم لهذه المنطقة تركها دون تغيير، ولا بأن الجغرافية لم تضع العراق بجوار أمريكا لكي تسعى لإلحاقه بها، ولا بانعدام الجدوى الاقتصادية الدافعة للاستعمار، لكون ـ ببساطة ـ أن ميزانية العراق التي ستظل مرتهنة لسنين قادمة وستقصر عن أن تفي بإصلاح بنيته التحتية المقوضة فهذه الميزانية لا تزيد عن ميزانية شركة أمريكية كبرى أو حتى لكبرى جامعاتها.

الوضع العراقي تقاسمت الفعل به أربع قوى، وإن بأحجام واتجاهات مختلفة؛ الوجود الأمريكي، الحكومة وقوى العملية السياسية، المقاومة وقوى العنف، ودول الإقليم، مع الانسحاب الأمريكي الجزئي الذي يفترض أن يعقبه الشامل، فإن الولايات المتحدة تدرك بأن هذا البلد لا يزال متأرجحا بين النجاح والفشل، ومن دون التزام طويل تجاه استقراره وتنميته وضمان ديمقراطيته فإنه على أحسن الفروض سيتجه إلى خانة ديمقراطيات العالم الثالث التي يطغى عليها الفساد والفوضى، في حين أن نجاحه سيقدم نموذجا لديمقراطية معتدلة لبلد عربي مسلم من الممكن أن تمثل إيحاء في بيئتها.

بانحسار الدور الأمريكي فإن فضاءه ستشغله القوى العراقية المتعطشة إلى مزيد من الإرادة وحرية التصرف، والتي طالما شكت بأنها مقيدة وكانت تحمل التردي على المستويات المختلفة لليد الأمريكية الثقيلة والمهيمنة، عموما هناك حد من التفاؤل المتواضع في حسم يقينيات العراق، بأنه لن ينهار أمنيا ولن ينحدر إلى الاقتتال الأهلي والطائفي، ولن يتجزأ أو يتحول إلى دولة فاشلة أو إلى ملاذ آمن لقوى العنف والتطرف، بما يهدد أمن محيطه ومنطقته، هذه اليقينيات حسمت لكن معها على العراق أن يتحول أو أن يكون في طريق مستقبل واعد ينسجم مع إمكانياته، هذا ما سيظل مرهونا بقدرة قواه السياسية ورشد إدارته، بأن تطمئن المكونات الأساسية بأنها نالت حصتها في إدارة البلد واشتركت في ثرواته، وبقدرتها على حل المشاكل العالقة والتي أثبتت للآن بأنها قد نأت بها عن منطقة الخطر، فيلحظ أن السنة والشيعة والكرد تعلموا أن يحلوا ويسكنوا مشاكلهم بالتفاوض وليس من خلال العنف، فبدأت تنمو تقاليد من الوفاق والتسويات بين شركاء الساحة السياسية، فأصبحت الذرائعية والواقعية هي السمة الأساسية بينهم بدل الآيديولوجية والشعاراتية، أي تغليب الحلول الوسطى بخلاف فترة ما بعد السقوط حيث كان الكل متحمسا للسقف الأعلى من مطالبه، إلا أنه في الوقت نفسه فإن الانسحاب سيغيب الشماعة التي طالما علقت عليها الأخطاء، وسيجعل الأطراف العراقية أمام مسؤولياتها، كما سيضمر ويغيب دور الطرف الأمريكي الذي طالما عول عليه بكونه ضاغطا للتوصل للتسويات وضامنا لها.

الطرف الآخر الأهم في انسحاب الذرائع هو المقاومة وجماعات العنف المسلح، فالمقاومة التي رفعت السلاح، بعضها بدوافع وطنية وأخرى بدوافع دينية، لا شك بأنها تريد أن تظهر بأن الانسحاب تم بفعل جهاديتها، ولا ضير في ذلك، ولا مكان هنا لجردة الحساب التي تبين خسائر العراقيين نسبة إلى خسائر المحتل الذي نقاومه، ففي ذروة العنف لعام 2007 فإن حصة العراق كانت هي 63% مما وقع من عمليات في عموم العالم، وكان 85% من ضحاياها من المدنيين، لكننا هنا سنقبل التمييز بين مقاومة شريفة وطنية لا تستهدف إلا المحتل وبين جماعات إرهابية، ولكن لإعطاء صدقية لهذا التمييز فإنه حان إلقاء السلاح لفك الالتباس والتداخل، فضلا عن انتفاء وانحسار الدوافع والبواعث الجهادية بوجود المحتل ومشهده يجوب المدن العراقية، والشك بعدم رغبته بالانسحاب أو حتى الجدولة يوجب نبذ العنف، والطرف الأخير الفاعل في الوضع العراقي هو دول الإقليم التي غذت هذه الجماعات المسلحة وانخرطت أحيانا بجهد مباشر عنفي أو سياسي مناهض للوجود الأمريكي، فإن الانسحاب يفترض أيضا أن يسحب ذريعتها في التدخل في الشأن العراقي الذي كانت تبرره بالحفاظ على أمن دولها من امتداد الفوضى وأمن أنظمتها من امتداد التغيير، أو أنها لا تملك إلا أن تجاري شارعها المتحسس من الوجود الأمريكي والرافض له في بلد عربي ومسلم.

لذا فالسؤال الذي بات من الصعب على هذه الأطراف أن تغفله، والذي لن ننتظر طويلا حتى تجيبنا عليه الأشهر القليلة القادمة هو: هل إن الانسحاب الأمريكي سيسحب الذرائع؟ أم أنها لن تعدم الذرائع والسبل لكي تتحرك باتجاه أهداف أخرى وموجدة أيضا لأعداء محتملين.