أيام الخير

TT

اشتهر رجال الدين في العراق بروح العقلانية والعلمانية والاستقلالية. ولا عجب فقد سبقهم إلى ذلك التفكير الحر الإمام جعفر الصادق والإمام أبو حنيفة فاحتذوا بحذوهما. يروي المؤرخون أن أبا حنيفة رفض تسلم منصب القضاء عندما عرضه عليه الخليفة، خشية أن يقع في خطأ في أحكامه أو يتأثر بأوامر الخليفة. ولعله سمع بما قاله الفقهاء: قاض في الجنة وقاضيان في النار.

من هذه المدرسة الدينية والفقهية الحرة نشأ الشيخ أمجد الزهاوي. ولكنه لم يتبع خطى سيده أبي حنيفة فلم يرفض تسلم منصب القضاء فأصبح قاضيا ومفتيا في أيام العهد الملكي في العراق، أيام الخير. رويت عنه حكايات ومواقف مأثورة في تمسكه بأحكام الشريعة واستقلالية القضاء وحرمة القضاة.

قالوا في ما قالوا إنه قُدر له أن ينظر في قضية نزاع بين الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق وولي العهد وأحد التجار اليهود في بغداد. ففي تلك الأيام، أيام الخير، لم يشعر المواطن اليهودي بأي حرج في مخاصمة أي شخص آخر مهما كانت منزلته أو ديانته. وكان موضوع النزاع ملكية قطعة أرض ثمينة، ادعى كل منهما أنها تعود شرعا إليه. قبل أن ينظر في الموضوع ويستمع إلى بيّنات كل من الطرفين، تلقى مكالمة تلفونية من أحد المسؤولين في الدولة، يلفت نظره إلى حساسية الموضوع، فهو يمس شخص الأمير عبد الإله الوصي على العرش. فإذا أصدر حكما في غير صالحه، يكون الوصي قد ظهر أمام الناس بمظهر المفتري والمغتصب والكذاب، مع ما يُحتمل من تناول الصحافة والمعارضة هذا الموضوع بصورة مسيئة للبلاط والدولة. حذر الموظف المسؤول الشيخ أمجد العمري من مغبة ذلك.

امتعض الشيخ الزهاوي من هذا التدخل فقال للرجل، اسمع هنا، أنا ما أخاف من الوصي هنا وإنما أخاف رب الوصي، الواحد الأحد خالق الوصي. ولم يستطع الموظف غير أن يسكت ويعتذر تاركا الأمر لمشيئة القاضي.

نظر أمجد الزهاوي في القضية واستمع لبينة ممثل الوصي ومحامي التاجر اليهودي. نظر في الأوراق والخرائط المطروحة أمامه ولم يشعر بأي شك في أن الحق كان في جانب المواطن الموسوي فأصدر الحكم في صالحه وأيد ملكيته للأرض المتنازع عليها. وبذلك خيّب ادعاء الأمير عبد الإله بها، الوصي على العرش وسيد البلاد.

لا عجب أن يحتل الشيخ الزهاوي تلك المكانة في قلوب الجمهور والحكام والمحامين. أحيلت قضية أخرى إلى القضاء، تعلقت بعركة عنيفة في إحدى دور البغاء. جاءت الشرطة بشهود للمحكمة، كان أحد الشهود سمسار الدار والآخر بائع الخمر والثالث إحدى العاهرات. نظر الحاكم باستياء إلى ضابط الشرطة وقال، ألم تجد شاهدا تجلبه أمامي أفضل من هؤلاء، سمسار وعاهرة وبياع عرق؟ ما عندك شاهد آخر محترم يحضر قدامي ويحط يده على القرآن ويشهد؟

أجابه معاون الشرطة، سيدي هذي عركة في بيت دعارة. يعني شنو اللي تنتظر أجيب لك منه؟ يعني قابل تنتظر مني أجيب لك أمجد الزهاوي شاهد؟

هكذا أصبح اسم هذا الشيخ رمزا للصلاح والتقوى ومخافة الله والالتزام بعدالة القضاء واستقلالية القضاة، في تلك الأيام. نعم تلك الأيام من أيام الخير.

www.kishtainiat.blogspot.com