محاولة لفهم العلاقات السورية ـ اللبنانية.. وسط الضباب الإقليمي

TT

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

(طرفة بن العبد)

في السياسة هناك الثابت وهناك المتغير. والاستراتيجية التي تعجز عن استشراف المتغيرات، ومن ثم التأقلم معها.. استراتيجية فاشلة. وفاشلة كذلك.. الاستراتيجية التي تخلط بين التأقلم مع المتغيرات والتخبط في القراءات بلا ثوابت راسخة.

اليوم، وسط السرعة الاستثنائية في تطورات منطقة الشرق الأوسط الحاصلة في ظل بلورة الإدارة الأميركية رزمة من السياسات الدولية والإقليمية «التغييرية»، نشهد حركة ناشطة في التأقلم وإعادة التموضع.

فسير إسرائيل قدما في خيار التطرف التوسعي والصدامي بـ«فريق عمل» حكومي يمثله ورثة غلاة «الرجعيين» الصهاينة Revisionists (نتنياهو) بالتحالف مع رموز المؤسسة العسكرية (باراك)، يشكل واقعا مقلقا يهدد بنسف مقومات أي بحث جاد بتسوية سياسية في الشرق الأوسط، من أكبر المستفيدين منها.. الولايات المتحدة. ولكن مع هذا، وبالرغم من الزخم الأولي لجهد إدارة الرئيس باراك أوباما.. يبدو أن مبادرتها الجديدة لفتح الأبواب وبناء الثقة تغرق في المستنقع الذي حولتها إليه تل أبيب بدعم من «اللوبي الإسرائيلي» الأميركي وبعض القوى الأوروبية المرتبطة بإسرائيل.

وقد تحقق هذا لتل أبيب نتيجة لازدواجية المقاربات التي تعتمدها، بالتنسيق مع أصدقائها، إزاء «رقعة شطرنج» الشرق الأوسط، وبالأخص على صعيد تأجيج النزاع الشيعي ـ السني الذي كان من أوضح معالمه «سيناريو» إسقاط النظام العراقي السابق، والرسائل المتناقضة ـ عن عمد ـ في التعامل مع ملفات إيران وسورية ولبنان ودول الخليج.

ومن إسرائيل إلى إيران.. حيث يجزم بعض المراقبين، ربما بقدر كبير من التفاؤل، بأن العد التنازلي لنهاية النظام قد بدأ.

فانزلاق «المرشد الأعلى» إلى صراع أجنحة داخل النظام شجع عناصر مخلصة من أبناء النظام نفسه على التشكيك بمكانته كـ«ولي فقيه»، يفترض به أنه فوق النزاعات، وعلى شق عصا الطاعة علانية.. بعدما اعتبرت أنه خذلها.

ثم إن الشرخ الذي كشفته الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يظهر أكثر فأكثر أنه شرخ طويل وعميق يتخلل كل مستويات السلطة ومختلف مؤسساتها. وهذا، بجانب وجوده في واقعين اثنين، وبصورة خطيرة:

الأول، الواقع الطبقي، حيث يغلف التيار المحافظ حربه الإلغائية ضد الإصلاحيين بخطاب شعبوي يتبنى اشتراكية ريعية وإنعاش الأرياف المحرومة ضد «بورجوازيي» البازار الذين يقودون التيار الإصلاحي.

والثاني، الواقع العرقي والطائفي، حيث يهدد أي اهتزاز في قمة هرم النظام وأي ترنح لـ«هالته» الشرعية.. النسيج الداخلي المعقد لإيران. وإذا كانت أحداث زاهدان (في المناطق البلوشية السنية) قد ظلت محدودة، فإن ثمة مناطق أخرى من البلاد تعيش واقعا حرجا قد يكون فوق قدرة المحافظين و«دوغمائيتهم» في ممارسة الحكم.

وهنا نصل إلى سورية.

النظام السوري الحالي، في عهديه القديم والجديد، مقتنع بأن «قدر» الكيان السوري أن يلعب دورا إقليميا محوريا بحجم طموحاته الوحدوية ـ أو التوسعية ـ وشعاراته التحريرية المعلنة. ولقد تصرف وما زال يتصرف على أنه يتمتع بشرعية سياسية يفتقر إليها منتقدوه إزاء نسف مقومات «واقع التجزئة».. وفق ما تروج له أدبيات حزب البعث.

فهو، برغم ضيق قاعدته الحزبية، بل ربما بسببه، يمارس نهجا توسعيا يعزز من خلاله شرعيته السياسية ويزيد شعبيته.. لأن الشارع السوري تربى عبر أجيال على الشعارات القومية والوحدوية. واستساغ تردادها، أحيانا من منطلق شوفيني بحت، وأحيانا أخرى من منطلق ثأري لجروح عميقة عانى منها العقل القومي.. من خسارة الإسكندرونة.. إلى خسارة فلسطين والجولان.

ولكن ثمة نقطة، من المفيد التنبه لها. فحتى إذا كانت «قومية» النظام السوري الحالي استنسابية واستغلالية، فهي كذلك لأن ثمة ارتباطا تاريخيا بين دمشق والعروبة. فعندما انتقلت عاصمة «السلطة» في دولة الخلافة الإسلامية إلى دمشق لم يحمل معاوية بن أبي سفيان إلى دمشق «شرعية» الحكم الإسلامي، بل «قوة أمر واقع» مجللة بالعصبية القبلية العربية. وقد ترسخت هذه العصبية أكثر لاحقا بالسيوف اليمنية بعد انتصار مروان بن الحكم على القيسيين في مرج راهط. ثم تأكدت «عروبة» السلطة الأموية ـ المفتقرة إلى الإجماع الإسلامي ـ مع تعريب عبد الملك بن مروان دواوين الدولة.

منذ تلك الحقبة البعيدة حدث الربط في دمشق الماضي بين ذهنية السلطة وسلاح «العروبة»، واستمر عن اقتناع حقيقي أو انتهازي حتى هذه اللحظة.

وبما يخص العلاقة مع لبنان، يخطئ كثيرا بعض اللبنانيين عندما يستعينون بالأساطير لإنكار أي صلة لهم بمحيطهم، بما في ذلك بالعروبة والعرب. ولكن، يخطئ بالقدر نفسه بعض السوريين عندما يرفضون وجود لبنان ويعتبرونه «حالة انفصالية شاذة».. غير مدركين أن الكيان السوري أيضا «حالة انفصالية شاذة».

وإذا كان لبنان بحدوده الحالية من نتاج واقع التجزئة، فالشيء نفسه يمكن أن يُقال عن سورية بحدودها الحالية.

ولئن كان بعض السوريين بمن فيهم جماعات من كبار المثقفين يتكلمون عن «الأقضية الأربعة».. وعن أن أجزاء واسعة من لبنان الحالي كانت جزءا من ولاية سورية العثمانية، فهم يجهلون أو يتجاهلون أن أجزاء من سورية الحالية كانت بدورها جزءا من ولاية بيروت العثمانية.

ثم إن لب مشكلة العلاقات السورية ـ اللبنانية، خلال العقود الأخيرة، كانت حقا التعامل الفوقي ـ بل «الكولونيالي» ـ الذي مارسته دمشق في لبنان، وإصرارها على جعله بؤرة عاجزة عن الحياة، ناهيك من قدرتها على حكم نفسها بنفسها. والمستغرب، والمؤلم أيضا، أن كثيرين من الإخوة السوريين المحبين للبنان، والعاتبين على اللبنانيين، يتجاهلون هذه النقطة مع أنها تماثل نقطة مماثلة برزت في العلاقة السورية ـ المصرية عشية الانفصال عام 1961.

فالعامل الأبرز الذي شجع قطاعا من السوريين ـ من اليمين واليسار ـ على فصل سورية عن مصر كان سوء الإدارة المصرية، يومذاك، للعلاقة بين إقليمي «دولة الوحدة». فحتى بين الإخوة لا بد من علاقة توازن واحترام متبادل. وتصرف فريق مع دولة الفريق الآخر على أنها «مزرعة» أو «رزق سائب» يشكل طعنة في الصميم لأنقى مشاعر الأخوة.

اليوم، يبدو أن ثمة مساعي تبذل لفتح صفحة جديدة بين دمشق وبيروت. وحبذا لو يصار إلى قراءة واعية ومتجردة من الهوى للعلاقات المتوترة في السنوات الأخيرة.. تؤدي لإزالة الشكوك والهواجس، وترمم صلات القربى والمحبة وحسن الجوار.