أوهام صدام

TT

ملف حلقات الاستجواب بين محقق الـ«اف بي آي» والرئيس العراقي الأسبق صدام حسين التي تنشرها «الشرق الأوسط» تقدم رؤية مدهشة لطريقة تفكير شخص كان في قمة السلطة في بلده لعدة عقود، تعامل معه العالم، وتأثرت بسياساته المنطقة وبلده وشعبه، دما ومالا، وهي مادة ثرية قد لا تكون وحدها كافية ليرسم المؤرخون صورة هادئة بعقل بارد لهذه الحقبة، لكن المؤكد أنها ستكون جزءا من الحكم التاريخي على عهد صدام.

أقوال صدام في ملف التحقيقات تعكس رؤية رجل مقتنع بسياساته وقراراته، فشعبه سيحبه بعد مماته، لم يكن هناك حل آخر غير غزو الكويت، عن الحرب مع إيران: طهران هي التي بدأت ولو كان جيش الشاه موجودا لهزمه في فترة وجيزة، انتفاضة 1991 قام بها لصوص، الحرب فيها حظ وسوء حظوظ، إلى آخر الكلام.

ولأن الحدث لا يزال ساخنا ولم يبرد بعد، فإن البعض سيرفض ويستهجن بالتأكيد كل الكلام من دون التمعن في مغزى طريقة التفكير، وكيف يمكن عدم تكرار هذا النموذج المأساوي، وأيضا هناك فريق سيرى أن كل الكلام عسل ويترحمون على «القائد المغوار» الذي تأمر عليه الجميع.

والحقيقة أن الطريقة التي يقدم بها صدام حججه في شرح سياساته تعكس نموذجا لرجل في قمة السلطة بعيد الواقع والحقائق ويعيش في عالم خاص به تحيط به أوهام عن العلاقات الدولية والخطوط الحمر في تصادمات المصالح بين الدول وخاصة القوى الكبرى. والحقيقة الأكبر هي أن هذه الأوهام ليس حكرا على صدام، فلم يكن هناك أشخاص لديهم الشجاعة الكافية لتقديم نصائح سليمة له، وطبعا لم تكن هناك المؤسسات التي تعد من أساسيات تشكيلة أي نظام لتوقف شطط الرئيس إذا رأت أنه يسير في طريق يؤذي المصالح الاستراتيجية للبلد، وهذه سمة عامة في الأنظمة التي تعيش تحت رعب سطوة شخص واحد.

وحتى لو أخذنا، جدلا، ببعض التبريرات التي قدمها صدام في أقواله لبعض القرارات التي اتخذها، فإن هذا لا يعفيه من المسؤولية، لأن الأشخاص الذين يتولون مسؤولية بلادهم يجب عليهم تقدير عواقب قراراتهم، ويجب عليهم أن يكونوا ملمين بقواعد اللعبة الدولية، وكيف تتحرك المصالح، وحدود استخدام القوة ومسؤوليتهم تجاه شعوبهم وعدم توريطها في مغامرات. وفي النهاية، فإن الحكم الموضوعي على هؤلاء القادة يكون على النتائج وما حققوه وليس النوايا، فما بال بالأوهام وعالم الخيالات والعنتريات.

ولا يحتاج أي مراقب أو محلل سياسي إلى جهد كبير للوصول إلى نتيجة أن هناك خطأ أو شرخا كبيرا في نظام صدام حسين كان لا بد أن يؤدي إلى كارثة، فالقرارات الاستراتيجية كلها التي يأخذها كانت خطأ في خطأ وقادت من كارثة إلى أخرى من دون أن يحاسب نفسه، أو يخرج أحد ليحاسبه من قلب مؤسسة النظام. وقد توفرت لصدام في بداية حكمه الموارد والقدرة على القيام بقفزة كبيرة في تحديث وتطوير المجتمع والدولة العراقية، لكنه اختار القفز إلى مغامرة مع إيران ليبدد الموارد والبشر بعشرات الألوف في حرب لم يكن لها هدف استراتيجي واضح، وحتى لو كانت هناك تدخلات من قبل طهران ومحاولات لتصدير الثورة والآيدولوجيا، فقد كانت هناك وسائل أخرى أكثر عقلانية لصد ذلك بنجاح، ومن مغامرة إيران إلى مغامرة غزو الكويت ليجد نفسه في صدام مع العالم كله في حرب نتيجتها محسومة سلفا، ويلحق ببلده دمارا كبيرا، وحتى بعد هذه الكارثة ظل صدام ممسكا ببلده رهينة تحت حصار دولي لنحو 13 عاما من دون أن يفكر لحظة واحدة في أن تنحيه قد يفتح صفحة جديدة يمكن للعراق بها أن يتنفس من جديد. فهل بعد كل هذا يمكن لأحد أن يجد مبررا لصدام، إلا لو كان هو الآخر أسير الأوهام؟