«الترحال السياسي» أهو حنين لزمن البداوة؟

TT

في الذاكرة الثقافية العربية، ظل الترحال، كنمط عيش بدوي، مرتبطا بالقوة، وبكل معاني الأنفة والإباء وعزة النفس، ورفض لكل أشكال الضيم والخنوع، وبحث دائم عن الخصب، ذلك أن البداوة عند ابن خلدون تعني الشجاعة والاستقلال السياسي، في حين أن التمدن يعني الركون. كما ارتبط الترحال بنمط عيش رومانسي، ساهم في إثراء الذاكرة العربية الشعرية والشفاهية، وكشف عن الجانب الجمالي الخصب للترحال، فبالترحال الدائم بين الفيافي والوقوف على الأطلال، تم إطلاق العنان لأجمل الأشعار وأعذبها، وكما يقول الشنفرى:

ففي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى مترحل

فالترحال في السابق، وإن كان يوحي باللاستقرار، فهو لااستقرار منتج وخلاق وإبداعي، لكن عناصر القوة في عصرنا هذا، يستحيل اكتسابها من خلال هذا النمط المعيشي البدوي الرومانسي، وخاصة إذا همت الجانب السياسي، ذلك أن بعض دول المغرب العربي، كالجزائر وموريتانيا والمغرب، حنت للأسف لهذا النمط البدوي بشكل أوهن جسدها السياسي، فأصيبت بحالة من الهرولة السياسية النفعية وتقلب المزاج السياسي، مما بصم المشهد السياسي المغاربي بمسخ خطير، وداء لعين سمي بـ«الترحال السياسي»، كظاهرة عالمية، مست جميع برلمانات العالم، وظهرت في بريطانيا في عهد تشرشل سنة 1958، آفة تعكس شكلا من أشكال الرداءة السياسية، وتتعارض مع النسق السياسي الحداثي، كما تتعارض مع الديمقراطية وإرادة التجديد السياسي التي تتشدق بها بعض الدول المغاربية.

فإذا كان الترحال في الصحراء قوة وبسالة، وتأهب للدفاع عن النفس، وحصانة للقبيلة من الخضوع للسلطة المركزية، فهو في المشهد السياسي تعبير عن حالة ارتباك وخلل سياسي، وعدم ثبات على القناعات والخطابات والمبادئ وغياب الإيديولوجية السياسية، وتفيؤ ظلال السلطة للظفر بدعمها، بشكل أضعف من مصداقية السياسيين الرحل، وإن كان البعض يستحسنها ويعتبرها حرية اختيار وانتماء، ونوعا من الاستقلال السياسي، فإن السياسي في تخليه عن خطابات وبرامج لطالما رددها على مسامع المواطنين كي يغذي حلمهم في التغيير والعيش الأفضل، قد يحس بأن خطاباته وهنت وبردت من كثرة الترداد، لذا، نجده يستجدي حضنا دافئا آخر، يعيد نبض الحياة لخطابات انطفأت وما عادت تجدي نفعا، يتوسل بـ«بركة» حزب آخر، ربما يكون أوفر حظا من الحزب السابق، وخاصة إذا كان يحظى بمباركة السلطة الحاكمة، لكنه قد ينسى أو يتناسى أنه بتغيير جلده السياسي، إنما يستبلد المواطنين الذين اختاروه ليمثلهم في إطار حزب ما وبرنامج معين، ليكرس قيما مزيفة تتنافى مع أخلاقيات العمل السياسي الحر والنزيه.

فموريتانيا لم تسلم بدورها من هذه «البداوة السياسية»، وظلت مسكونة بهاجس الترحال الدائم، وعدم الثبات، حتى في مجالات العمل التجاري والفلاحي والصناعي عند سكانها، وكذا بحالة من التغيير الحربائي الدائم لانتماء سياسييها الحزبي، فبالإضافة إلى كون الشعب الموريتاني عاش في الآونة الأخيرة على إيقاع انقلابات العسكر في 3 أغسطس(آب) 2005 و6 أغسطس 2008 ضد النظام الحاكم، وهذا أمر ليس بغريب على موريتانيا التي لم تتمتع يوما بعافية سياسية، وشهدت أربعة عشر انقلابا، بعضها فشل والآخر أصاب هدفه، مما جعل موريتانيا تعيش حالة من الاحتقان والغليان السياسي والتشرذم الحزبي، وفتح المجال لتناسل الأحزاب الموسمية، ذلك أن هذا البلد لم يعد فقط بلد المليون شاعر، بل بلد 73 حزبا اليوم، حيث انتعشت كثيرا حالة الترحال السياسي في المرحلة السياسية الحالية، وهي مرحلة التحضير للانتخابات الرئاسية، التي طالبت المعارضة الموريتانية بوقفها، وتعليق الأجندة الانتخابية إلى حين الإفراج عن السجناء السياسيين، وعادة ما يكون هذا الترحال تجاه الأحزاب الحاكمة، بحثا عن المنفعة السياسية الآنية، والظفر بالمناصب العليا.

والجزائر هي أيضا تعيش حالة من «السياحة السياسية» في أغلب دوراتها الانتخابية السابقة، فكان مثلا أن هاجر ستة مناضلين من الحزب الحاكم «جبهة التحرير» وارتحلوا باتجاه حزب «التجمع الديمقراطي» الذي استحدث فجأة، لا لشيء سوى لأن الحزب الثاني سيكون أوفر حظا في تشريعيات عام 1997.

كما انتعشت هذه السياحة وتفاقمت أكثر، لتشمل أحزابا إسلامية لم تتوان في تغيير ثوبها السياسي، لتلبس لبوسا ديمقراطيا أو علمانيا، يتماشى مع الموضة الانتخابية، فتعالت أصوات النشطين والمراقبين السياسيين لسن قانون انتخابي لإصلاح هذا الانحراف السياسي، الذي جعل المزاجية والمصلحة الذاتية هي سيدة الموقف السياسي، بشكل أضعف أداء العمل السياسي بالجزائر وخلق حالة من النفور والعزوف عن العمل السياسي لدى الجزائريين.

أما في المغرب، فإن ظاهرة الترحال السياسي تضع البلد على صفيح ساخن، وخاصة أنه على أبواب الانتخابات البلدية، التي من المنتظر أن تجري يوم 12 يونيو(حزيران) المقبل، وهي الظاهرة التي لازمت الحياة البرلمانية المغربية منذ الستينيات، حيث عرفت أول حالة ترحال سياسي خلال الولاية التشريعية لعام 1963، وأخذت منذ ذلك التاريخ تتفاقم إلى اليوم، بشكل دفع ببعض الأحزاب السياسية للمناداة بتفعيل البند الخامس من قانون الأحزاب الذي صدر في 14 فبراير(شباط) 2006، «والذي يمنع على كل شخص يتوفر على انتداب انتخابي ساري المفعول في إحدى غرفتي البرلمان تم انتخابه فيها بتزكية من حزب سياسي قائم، أن ينخرط في حزب سياسي آخر إلا بعد انتهاء مدة انتدابه»، كما أن تعليمات وزارة الداخلية كانت صارمة، في هذا الإطار، وقضت برفض تلقي ترشيحات البرلمانيين الذين غيروا انتماءاتهم الحزبية، خطوة جعلت الأجواء الانتخابية مشحونة بين شد وجذب، وبين أحكام وطعون، وإن ظلت بنفس الملامح والوعود والخطابات.

فإذا كان الإنسان العربي في ترحاله الدائم بين الفيافي، يحمل معه قطيعه وعشيرته، بحثا عن موطن خصب ورزق للجميع، فإن «الترحال السياسي» اليوم الذي يجعل الحياة السياسية رهينة موج هادر، يمضي فيه المرتحل إلى «موطن رزق» آخر، وحيدا إلا من أناه ونرجسية وبرغماتية سياسوية، لأن علاقته بالحزب الأول لم تكن علاقة التزام واقتناع ووفاء ومسؤولية.. والأحزاب للأسف، لم تلعب دورها الكامل في تأطير شبيبتها منذ الصغر على الالتزام السياسي، ولم تغرس في نفوسهم ولاء لقيم التحرر والإيثار والالتزام والقناعات السياسية، بل إن همها فقط أن يشبوا على الولاء الأعمى للقيادات والزعامات والشعارات، وأكبر سوط للعقاب يوجه لهؤلاء السياسيين الرحل هو امتناع الناخب عن منح صوته الانتخابي الغالي، والذي يجب عليه أن يكون أكثر وعيا ونضجا من اليوم فصاعدا، حتى لا تنطلي عليه كل تلك الخدع البهلوانية السابقة، فحليمة لا أظنها ستقلع عن عادتها القديمة.

*كاتبة من المغرب

[email protected]