لماذا لا يتصالح الفلسطينيون؟!

TT

لا أدري هل أدرك الإخوة الفلسطينيون من ساسة وقادة الرسالة الأساسية الموجهة إليهم خلال الاضطرابات الأخيرة في إيران؟ فضمن أسباب كثيرة لما جرى من مظاهرات واعتصامات، بعضها خص السياسة الخارجية الإيرانية، والآخر ركز على الأوضاع الداخلية ومدى تدهورها، والثالث كان معنيا بالانتخابات وما جرى فيها من تزوير، فقد كان هناك وجود للقضية الفلسطينية داخل تلك الساحة الصاخبة للأحداث. وجاءت القضية في السياق التالي: إن إيران بلد نامٍ، بل هو رغم ثرواته الكثيرة لا يزال ضمن دول العالم الثالث، وعلى مقربة منه تجري وتتقدم دول مثل الصين والهند وتركيا، ولذلك فإن إهدار الموارد والوقت واستعداء الدول الأجنبية على قضايا خارجية ـ يقصد بها عادة القضية الفلسطينية ـ يشكل عاملا مؤخرا لإيران ودافعا لها إلى الخلف، بل إن فيه ما يصرف الأنظار تحت دعوات الجهاد المختلفة، عن القضايا الحقيقية للمجتمع الإيراني. وبالطبع فإن أحمدي نجاد وجماعته قد فازت في هذه المواجهة كما هو متوقع بسبب ما لديها من عناصر القوة المعروفة، ولكن المؤكد أن الرسالة قد وصلته وهي أن قطاعا واسعا من الشعب الإيراني قد بلغ لديه السيل الزبى بالنسبة إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية وحزب الله وجماعة حماس وظهور إيران بمظهر الدولة التي تسير في اتجاه بينما بقية العالم تسير في اتجاه آخر.

وما جرى في إيران حدث مثله في بلدان عربية وأجنبية أخرى، وكان النقاش الذي جرى في طهران هو ذاته الذي جرى في القاهرة من قبل، وفي بيروت هذه الأيام، ومن قبله عضت بكين وموسكو بنان الندم على اهتمام مبالغ فيه بقضية ليس لها نهاية. ولم يكن ذلك لأن شعوبا ودولا قد فقدت اهتمامها بالقضية الفلسطينية، أو أنها فقدت اعتقادها في عدالة الحقوق التي يطالب بها الشعب الفلسطيني، فلا يزال كل ذلك موجودا، ولكن النضال والكفاح من أجله هو الذي أصبح موضع التساؤل لأنه لا يمكن الكفاح والنضال من أجل شعب فقد قادته ونخبته البوصلة الموجهة للحركة والعمل السياسي والعسكري الذي يتعامل مع القضية من أجل حلها لا بقائها على حالها.

أعرف أن جماعة منا عربا وفلسطينيين سوف تعدد الكثير من التصريحات، وبيانات المؤتمرات، وحتى صلابة بعض التنظيمات وإصرارها وصمودها في الدفاع عن المقاومة الفلسطينية، ومنع التطبيع مع العدو الصهيوني، ولكن كل ذلك لم يُقَل فقط بطريقة مخيفة عما كان عليه الحال خلال السنوات السابقة، أو أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، ولكنه أيضا لم يعد يزيد من حيث القيمة الاستراتيجية عن قيمة الحبر الذي كُتب به. ولم يكن سبب هذا الانخفاض راجعا فقط إلى أن «القضية» ظلت دائما على حالها، وإنما لأن أصحابها انقسموا انقساما بيّنا، بل إن عدد الضحايا مِن تقاتُلهم أصبح منافسا لهؤلاء الذين يسقطون دفاعا عن القضية في مواجهة الاحتلال. وخلال مفاوضات الصلح الأخيرة التي جرت في القاهرة فإن القضية الأساسية كانت مدى استعداد حماس وفتح للإفراج عن سجناء كل منهما في الأراضي التي تسيطر عليها. وفي لحظة من اللحظات كان كلا الطرفين يحتفظ برهائن من الطرف الآخر يستخدمها خلال عملية التفاوض للتشدد أو للتهدئة. ومن المدهش أن التهم الموجهة كانت دائما مغلفة بالحديث عن التعامل مع العدو الإسرائيلي، أو حمل سلاح للقيام بعمل انقلابي، أو فقط الوقوف داخل المعسكر الإمبريالي الصهيوني.

وبالطبع فإنه من الجائز القول إن هذا الانقسام الفلسطيني ليس جديدا، فما أكثر ما انقسم الفلسطينيون ما بين معتدل ومتشدد، وتقدمي ومحافظ، ووطني وعميل، ولكن محيطهم أيضا كان يغلي بهذه التناقضات، وكان ممكنا للفصائل الفلسطينية المختلفة أن تلعب عليها، وتحصل الفصائل كلها على نصيبها من ضرائب الكفاح والنضال من أجل القضية. ولكن الإرهاق من القضية وصل مبلغه في المنطقة كلها حتى وصل إلى طهران، وبات واضحا لكثير من مواطني الشرق الأوسط أن هناك أمورا أخرى ينبغي الاهتمام بها، وجاءت أجيال جعلت من قضية مستويات المعيشة والتقدم الاقتصادي والاندماج في العالم المعاصر بحيث لا تقل أهمية عن القضية الفلسطينية وفي أحيان كثيرة تتفوق عليها.

ولم يكن الإرهاق وحده هو الذي حل بالدول التي كانت القضية الفلسطينية جزءا من حياتها اليومية بل أضيف إليه عدم الثقة في معسكرَي السلام والمقاومة الفلسطينيين. فلا معسكر السلام، وتمثله فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية، نجح في تقديم مثال للقدرة على التوصل إلى حل بل إنه في لحظات حاسمة سابقة وجل وجفل عندما بدا له أنه لا توجد تسوية بلا ثمن، ولم يكن لديه الشجاعة على أن يصارح شعبه كما فعلت الكثير من حركات التحرر الوطني من قبل أن الاستقلال يأخذ أشكالا ومراحل عدة، وأحيانا تكون له أثمان باهظة. وفي المقابل فإن جماعة المقاومة على فصاحتها وعنف قولها فإنها لم تنجح في تحرير شبر واحد من الأرض الفلسطينية، بل إنها وضعت ما تم تحريره بالتفاوض والدم الفلسطيني موضع الحصار والعزلة الدولية.

وفي مقال هام نشرته صحيفة الشروق القاهرية في 4 يونيو المنصرم للدكتور أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير مركز البحوث والدراسات العربية بالجامعة العربية تحت عنوان «المقاومة وحديث السخرية» رفض فيها باقتدار ثلاث حجج موجهة إلى المقاومة الفلسطينية واللبنانية وهي: أنها تقوم بأعمال طائشة غير محسوبة تسبب كوارث لشعوبها، وأنها ضعيفة وعاجزة عن إيذاء الخصم الإسرائيلي، وأخيرا لأن قادتها يختبئون ساعة الحرب في الأنفاق بينما يتعرض المدنيون لخطر عظيم. ولكن هذه الحجج ليست هي المشكلة الرئيسية، والحديث حولها يمكن أن يطول، ولكن قضية «المقاومة» ذات جانبين: أولهما أنها باتت جزءا من السياسات الداخلية للبنان وفلسطين حينما أصبح لها طبيعة انقلابية قادرة على انتزاع أجزاء من التراب الفلسطيني لصالحها كما فعلت حماس في غزة، وكما فعل حزب الله في لبنان حينما حاول فرض إرادته على الأغلبية اللبنانية سواء عندما قام باحتلال بيروت، أو بنظرية «الثلث المعطل» غير المسبوقة في التاريخ السياسي. وثانيهما أن المقاومة الفلسطينية واللبنانية لا يبدو أنهما يعملان ضمن استراتيجية متكاملة لتحقيق الهدف من الكفاح الوطني لتحقيق التحرير والاستقلال، وأنهما على أغلب الأحوال يتحركان فقط من أجل المزايدات الداخلية، أو تحقيق الانتقام وشفاء الغليل، أو للتوصل في النهاية إلى هدنة طويلة الأمد كما هو حادث الآن بين حزب الله وحماس من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى. وخلال سنوات طويلة من العمل النضالي فإن المقاومة الفلسطينية واللبنانية لم تكسب مزيدا من الحلفاء والأصدقاء بل إنها في الأغلب أضافت أعداء جددا للقضيتين الفلسطينية واللبنانية كما رأينا من قبل.

نتيجة ذلك كله هو أن الأطراف اللبنانية والفلسطينية قد بات عليها لإنقاذ «القضية» أن تصل إلى كلمة سواء بينها وبين الأطراف الأخرى في ساحتها، ويبدو أن حزب الله كان الأكثر رجاحة في هذه المسألة عندما جعل الانتخابات اللبنانية تمر بسلام، ربما لأنه قرأ الرسالة الإيرانية جيدا، وهي أن المسألة كلها باتت الوقت الذي يحدث عنده التغير في الموقف الإيراني سواء نتيجة الضغوط الشعبية أو الحوار الأمريكي الإيراني. وبقي أن تتلقى حماس هي الأخرى الرسالة، بحيث تسحب العراقيل التي تضعها على طاولة المفاوضات بينها وبين فتح، حيث سيستحيل على هذه الأخيرة أن تسمح لحماس بإفساد مفاوضاتها مع إسرائيل مرة أخرى، كما أنها لن تسمح بوجود تنظيم مسلح آخر موازٍ للقوة المسلحة للسلطة الوطنية الفلسطينية تخطف قرارات الحرب والسلام كما يعنّ لها، وربما تخطف السلطة الوطنية نفسها وتلقيها من أعلى العمارات، وفي رام الله هذه المرة لا غزة. وإذا كان في التاريخ الفلسطيني درس فإن حماس لن تفعل لأن ذلك كان هو ما فعله الراديكاليون الفلسطينيون طوال التاريخ الفلسطيني، ولكن الأقدار كثيرا ما تفاجئنا بأمور كثيرة يكون ميلادها هذه المرة في طهران أو دمشق؟!