العراق وأمريكا.. علاقة المستقبل

TT

تدخل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية مرحلةً جديدة ومهمة في الكثير من أبعادها، جديدة حيث تمّ تنفيذ مرحلة أساسية من انسحاب القوات المقاتلة من المدن والقرى والقصبات بنجاح لمعسكراتٍ مُحددة تمّ تسميتها وتحديد حركة هذه القوات فيها وتنسيق المهمات القتالية المستقبلية مع الحكومة العراقية، هذا الإنسحاب هو إيذانٌ بمرحلةٍ جديدة قادمة إذا قورنت بماضي الأيام فأنها تعكس انتقالا جديدا لنوع المهمات والدور، خصوصاً إذا عرفنا بأن الحركة الحرة لهذه القوات كانت تسبب احتكاكاً مع العراقيين في مواقع ومدن كثيرة والتي تكبدت فيها هذه القوات خسائر كبيرة بسبب تلك المهمات، حيث حالة التأهب والإنذار القصوى التي تصاحب هذه الحركة والتي تُعطيها حريةً شرّعتها هي لنفسها بالرد الناري الكثيف على أي حركة من الطرف المقابل الذي قد لا يكون بالضرورة عدواً، بل وامتدت واتسعت هذه الحرية الذاتية للشركات الأمنية التي ارتكبت مجزرة لم تلتئم جروحها بعد في ساحة النسور في بغداد من قبل شركة بلاك ووتر بقتل أبرياء كانوا ينتظرون في تقاطع مروري للذهاب الى أرزاقهم، من هنا تكمن أهمية تقليل هذه الأسباب التي تُولد سفك هذه الدماء، والانكفاء إلى المعسكرات سيحقق جزءاً من هذه القضية وسيزيل عبئاً وعناءً كبيراً على الطرفين العراقي والأمريكي. وهذا الانسحاب ومرحلته الجديدة سيخلق تحديات ليست قليلة للعراقيين تُدركها الحكومة العراقية وبكل أبعادها ولا خيار أمامها إلاّ تحمل المسؤولية التي لا بُد منها، ومرةً أخرى فإن هذا الانسحاب يجب أن لا يُصادر حق العراقيين في الإشارة الى الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها هذه القوات منذ دخولها للعراق والتي كان يعكس جزءاً ليس قليل منها تصرفات قادة ميدانيين كانت تنقصهم الحنكة والتصرف الواقعي والذين تسببوا بحرجٍ كبير للإدارة الأمريكية بدءاً بالحاكم العسكري غارنر ومروراً بالحاكم المدني بول بريمر نزولا إلى أمراء وحدات وجنود تعسفوا باستخدام القوة المفرطة بحق الأبرياء، وهذا أيضاً لا يُلغي حقهم بالمطالبة بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم.

العلاقة القادمة بين العراق والولايات المتحدة مُهمة، كونها ستُطلق تعاوناً غير عسكري وفي مجالات مدنية متعددة، حيث أن علاقة 6 سنوات كانت مُثقلة ومأسورة بمعالجة تدهور الوضع الأمني والتهديد الإرهابي الذي لم يكن متوقعاً باتساعه وبفصول العنف الأعمى الذي اتّسم بها وما استتبعه من عنفٍ طائفي كاد يُودي بالعراق ووحدته. هذا الوضع الأمني الضاغط الذي فاجأ الجميع بسرعة تطوره، بينما قد لا يكون مفاجئاً لجذوره وأسبابه الكامنة، خلق أحادية في التعامل مع الشأن العراقي من قبل إدارة الرئيس بوش بتعاون عسكري بحت تنصرف كل همومه واهتماماته لتقليل العنف وأسبابه دون الالتفات إلى أي أمرٍ آخر عدا ما يخدم ويصب في أصل هذا الهدف، وعندما كنا نتحدث مع الجانب الأمريكي عن تعاون ودعم مدني يخلق فرص عمل تُسهم بتقليل العنف، كان يبدو ذلك نوعا من التنظير المترف لدى الجانب الأمريكي يسنده شواهد على الأرض كان يستشهد بها.

لكن الآن مع تراجع التهديد الأمني لمستوياتٍ جديدة ومشجعة ومع الاعتراف بخطر الباقي من التهديدات الإرهابية التي تراجعت من قدرات للسيطرة على مناطق في بعض المحافظات وإرهاب سكانها وفرض قوانين غريبة على نسيجها الى خلايا وجزر متباعدة تضرب وتهرب وليس لها مشروع سياسي غير القتل والتدمير. أقول إن الظروف الجديدة ستُطلق تعاوناً مدنياً طال انتظاره يؤهل لعلاقة إستراتيجية طويلة المدى ترسم علاقة بلد ذي سيادة يتحسس كثيراً من أن يُصادر حقه بالتعامل بندية وبتكافؤ مع بلدٍ يختزن تاريخاً من الاعتزاز بهويته الوطنية ويحقُ له أن يفتخر بها.

هذا التعاون يمكن أن يؤسس لعلاقة متميزة للمستقبل تنطلق في مجالها السياسي، الذي سيكون اختباراً للالتزام الأمريكي بدعم جهود العراق للخروج من طائلة البند السابع الذي لم يعد مبرراً له حيث لم يعد العراق مهدداً للأمن والسلم في المنطقة أو العالم وكذلك الالتزام المعلن للعراق بالوفاء بحل الملفات العالقة مع الكويت والذي يحمل جزء منها طابعاً إنسانياً يُضيف على الالتزام المعلن التزاماً أخلاقياً وكذلك غلق فصول وملفات الماضي الذي تَسبب بكوراث ونكبات للعراق وللمنطقة جراء ممارسات رعناء للنظام السابق أدخل العراق في حلقاتٍ متشابكة من العوز والفقر وتدمير كل مقومات الحياة.

هذه الرغبة القوية بعلاقاتٍ متميزة لا تزال تمثلُ أهمية كبرى عند الإدارة الجديدة في واشنطن والتي عبّر عنها نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، تمثل الالتزام الأمريكي غير المشروط لعلاقةٍ تتوسع في المجالات المدنية وتُقدم الدعم والمساندة طالما طلبت الحكومة العراقية ذلك، ولا يُقلل من هذا الالتزام القلق الأمريكي المشروع الذي تمثله بعض الملفات الحساسة العالقة والتي نتشارك مع الأمريكيين بأنها تُبطئ البناء الديمقراطي المنشود للنظام الجديد في العراق.

واستكمالا للتعاون المدني فإن العراق يتطلع الى توسيع التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة ومساعدته للانتقال لاقتصاد السوق واستثمار أمثل لموارده وثرواتِهِ وتأهيل مؤسساتِهِ وإعادة هيكلتها بما يتناسب وقدرات العراق الاقتصادية ودوره القادم.

وتعاون في المجال العلمي والثقافي لتأهيل الجامعات والمعاهد بعد أن تعرضت لانتكاسة مروعة رأيناها نحن خريجي جيل السبعينات الذين كنا نفتخر بمستوى التعليم الذي تلقيناه حدث بعدها تدهور في المناهج والتدريس، نحاول الآن في الحكومة العراقية ردم هذه الفجوة بإعادة تأهيل الجامعات وتوأمتها مع نظيراتها الأمريكية وابتعاث طلبة ليكونوا نواة لهذا التحديث ونتطلع للولايات المتحدة التي تسبق العالم في البحوث والتطوير لتساعدنا لردم هذه الفجوة المعرفية.

ثم في مجال القضاء واحترام معايير حقوق الإنسان فإن الجهد ينصب على قضاء محايد لدولة ديمقراطية يأمن فيها الإنسان على حقوقه من أن تغدر بها يد الحاكم أو حاشيته أو الأحزاب والشخصيات المتنفذة، إضافة الى تعاون في قطاعات أخرى تلخص في مجملها إيذاناً بعلاقة طويلة المدى ترسم لنوع جديد من علاقة القطب الأكبر مع دولة يعتز شعبها بتاريخٍ يكتنز شعوراً من الفخر يريد تطويعَهُ لنظامٍ ديمقراطي حقيقي لبلدٍ تعددي يعتز بعروبته ودينه ويحترم من يختلف معه بالرأي والمعتقد.

* الناطق الرسمي للحكومة العراقية