الديموقراطية الوفاقية اللبنانية: حكومة تحكم.. أم حكومة تمثل؟

TT

في الديموقراطيات البرلمانية، عكس الديموقراطيات الرئاسية، ليس تأليف الحكومات بسهل. لا سيما إذا لم يكن في المجلس النيابي أكثرية مطلقة واضحة المعالم وموحدة الصفوف. وغالبا ما تتألف الحكومات من ممثلين لعدة أحزاب وكتل نيابية، متقاربة في شعاراتها وبرامجها، وتبقى في الحكم طوال مدة المجلس النيابي، وتغادره لتحل محلها حكومة جديدة منبثقة عن أكثرية نيابية جديدة. تلك هي «أصول اللعبة» الديموقراطية البرلمانية في الدول الغربية التي «اخترعت» هذه اللعبة .

ومشكلة لبنان هي في أن اللعبة الديموقراطية البرلمانية مطعمة ـ والبعض يقول ملغومة ـ بـ«الوفاق الوطني» أي إنها تخضع لاعتبارات ومعايير وقواعد، وطنية وسياسية، خاصة. يتناقض بعضها مع قواعد وأصول الديموقراطية البرلمانية. والسبب هو في طبيعة تكوين «الشعب اللبناني» المؤلف من 18 طائفة دينية، والكثير من الأحزاب والزعامات السياسية، وفي ارتباط أو تأثر معظم هذه الأحزاب والزعامات بالخارج، بشكل أو بآخر.

فلو أسفرت انتخابات حرة ونزيهة، في أي بلد في العالم عن أكثرية واضحة المعالم (71 نائبا)، كالتي أسفرت عنها انتخابات حزيران في لبنان، وهي أكثرية كافية لتتألف، على أساسها وأساس برنامجها، حكومة، في أقل من أيام، واكتفت الأقلية النيابية، بالقيام بدور المعارضة، وهو، في النظام السياسي الديموقراطي، دور ضروري، لا يقل أهمية عن دور الحكومة، ولكن هذا المسار، على ما يبدو، غير سهل المسالك، لسوء حظ لبنان.

صحيح أن المعارضة سابقا، أي كتلة حزب الله ـ أمل ـ التيار العوني، أبدت استعدادها لتلقي اليد التي مدها فريق «14 آذار» أو «لبنان، أولا»، إليها، وأنها لم تطرح شعارات حادة أو معرقلة، لكنها أشارت بوضوح إلى ضرورة قيام «حكومة اتحاد وطني» أو «حكومة وفاقية» أو «المشاركة في الحكم» و«توزيع المقاعد الوزارية بنسبة عدد نواب الكتل والأحزاب». وهذه المطالب التي قد تبدو بريئة ومعقولة، ربما تخفي وراءها نيات أقل براءة. لا سيما عند كتلة الجنرال عون.

إن المطلوب، اليوم، للبنان، هو «حكومة تحكم» لا حكومة «تمثل الجميع»، وتعجز عن اتخاذ القرارات التي تفرض الأمن وتنعش الاقتصاد وتجنب لبنان تداعيات الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط. فالوفاق الوطني أمر ضروري وطي صفحة النزاعات التي عرضت البلاد لأزمات حادة، خطوة منشودة، ولكن «الثمن» يجب أن لا يكون على حساب الدولة والحكم والاقتصاد.

لا أحد يدري كم ستستغرق «عملية تأليف» الحكومة اللبنانية الجديدة. وما هي الزوايا التي ستدور، كي «تزبط التركيبة» وتتحقق التوازنات السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية والمناطقية في اختيار الوزراء، وفي توزيع المناصب الوزارية عليهم، لا سيما بعد أن أدخل «عامل» جديد، ألا وهو قسمة الحقائب الوزارية إلى «سيادية» و«خدماتية»، وإلى وزارات درجة أولى ووزارات درجة ثانية. وهنا لا بد لرئيس الجمهورية من أن يلقي بوزنه على عملية التأليف، مساعدا الرئيس المكلف على تجاوز العقبات التي تنتصب في وجهه. ولا شيء يدل على أنه لن يفعل.

إن وصول سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد قيادة جريئة وحكيمة، مع زعماء آخرين، لفريق «14 آذار»، ونظرا لما يتمتع به من تعاطف وتأييد عربي ودولي، يشكل فرصة للبنان، وإذا كان من واجبه قيادة الحكومة التي يرأسها في الطريق الذي حدده البرنامج الذي خاض المعركة الانتخابية، مع شركائه، على أساسه، فإن من حقه أن يطلب من شركائه، ومن المعارضين سابقا، أن يساعدوه في الإقلاع بلبنان نحو شواطئ آمنة وآفاق مؤملة.

يبقى أن تتوفر للحكومة اللبنانية الجديدة، ظروف إقليمية ودولية مواتية، أو بعبارات أخرى: أن تساعد «المصالحة» السورية ـ الأميركية، على تحسين العلاقات بين دمشق وبيروت، وأن يؤدي ما حدث في إيران مؤخرا إلى انفراج بين واشنطن وطهران، لا إلى تأزم يدفع لبنان ثمنه، وأن تنجح المساعي الأميركية والدولية في دفع عملية السلام في الشرق الأوسط إلى الأمام، وإلا، فإن مهمة الحكومة الجديدة لن تكون سهلة.

إن الحياة السياسية في لبنان، تتلاعب فيها عوامل دينية وطائفية ومذهبية، تعود جذورها إلى ألفي سنة، وعوامل حزبية وعقائدية سياسية، تعود إلى مائة سنة وأكثر إلى الوراء، ناهيك عن كل العوامل والمعطيات التي فرضتها اللعبة الديموقراطية البرلمانية. وكل هذا الخليط المتفاعل، داخليا وخارجيا، ليس من السهل «هضمه» وتحويله إلى نظام وطني ديموقراطي سليم وراق وفعال، حتى ولو أثبت اللبنانيون في الانتخابات النيابية الأخيرة، أنهم مؤهلون لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.